مع البر والأبرار «2»
يقولون: تُعرف الأشياء بأضدادها. كذلك تُعرف بمقارناتها أيضا. وعندما نتتبع كلمة البر باشتقاقاتها المختلفة في القرآن الكريم، وننظر في أضدادها ومقارناتها أيضا سنتمكن من تقريب صورة البر أكثر.
قراءتنا لقوله تعالى وهو يتحدث عن النبي يحيى مادحا: «وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا» يُفهمنا أن الممارس للبر «أعني البَرّ» يقابله في الطرف الآخر الجبار العصي. والجبّار صيغة مبالغة، الأصل في مادتها، كما يقول صاحب التحقيق، هو ”هو ظهور العظمة ونفوذ القدرة والتسلَّط على أمر، بحيث يجعل الطرف تحت نفوذه وحكمه وسلطانه“ أي أنه المسيطر بقوته ونفوذه على شيء ما.
وقد وردت هذه المفردة «جبّار» في القرآن مثقلة بحمولة سلبية دائما عندما تكون صفة للعبد، لأن من شأن العبد أن يكون خاضعا لسلطان الله مقهورا لعظمته، لا أن يكون متسلطا على الآخرين دون وجه حق: «نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ» فالنبي ليس بمتسلط عليهم يجبرهم على اتباع الحق «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ».
وقد اقترنت مفردة «جبّار» هذه بصفات رذيلة أخرى كما ورد في قول النبي عيسى : «وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا» حيث اقترنت بالشقي، واقترنت بالعصيّ في قوله: «وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا»، وبالعنيد في قوله: «وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ» وبالمتكبر في قوله: «كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ» وبالمفسد في قوله: «ِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ». وهي جميعا صفات ذميمة تفصّل صورة الجبّار من بني البشر، وهي الصفة المقابلة للبَرّ.
فالبرّ مطيع صادق سعيد بطاعته، لا يخالف الحق عنادا، بل يتواضع للحق وأهله، ويسعى للإصلاح ما أمكنه. وقد أشار الله تعالى لأهل البر بقوله: «ِأُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» فهم صادقون دائما في أقوالهم وأفعالهم ونياتهم وعقائدهم، ومتقون في جميع أحوالهم.
هذا أولا. ثانيا: نلاحظ أن القرآن يقابل بين الأبرار والفجّار، كما في قوله تعالى: «إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ». فمن هو الفاجر؟
الفاجر هو المنشق المتمرد عن حالة التقوى «فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها» «ِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ» وهو الغارق في الملذات: «كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ» لأنه سجن نفسه وحبسها على ما يلائم أهواءه وشهواته. بينما في الطرف المقابل نقرأ «كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ» لأن حياتهم كانت كلها صعودا وسُموا إلى ربهم الأعلى. وفي هذه المقابلة إضاءة بل إضاءات أخرى على البر والأبرار.
هذا كله بالنسبة للمعرفة بالأضداد. أما المعرفة بالمقارنات، فنكتفي باقتران البر بالتقوى في أكثر من آية، مما يعني تغاير المفهومين من ناحية، والتقاءهما من ناحية أخرى، كما في قوله تعالى: «وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى» وقوله: «وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ» وقوله: «وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى» وقوله: «لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ».
وإذا كانت الآية قبل الأخيرة تبين أن البر لا يخلو أبدا من التقوى، فإن الآية الأخيرة تكشف أن الأبرار هم المتقون من ذوي المنازل العالية، أي هم صفوة المتقين. ولذا يدعو أولو الألباب ربهم أن يتوفاهم مع الأبرار، مع ما لأولي الألباب من صفات عظيمة ذكرها القرآن في آياته الشريفة، فهم يقولون: «رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ».