مع البر والأبرار «1»
القرآن الكريم لا يُلقي الصفات والمقامات جزافا، لأنه يجري وفق القاعدة التي أثبتها في قوله تعالى: «وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ». فللكلمة القرآنية وزنها، وللمفردة كذلك، بل للحرف أيضا، فضلا عما هو أكبر.
لذا فإن من الجدير بمتدبري الكتاب العزيز إعطاء مزيد من الاهتمام لهذه القاعدة أثناء إعمالهم التدبر في الآيات كي ينهلوا المزيد من فيض القرآن الذي «لا تُحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه».
إن تتبع مفردة من مفردات الصفات أو المقامات في مختلف سياقاتها القرآنية تلقي الكثير من الأضواء الكاشفة عن تلك المفردة وأبعادها وظلالها وما إلى ذلك. مفردات مثل «المؤمنين، الكافرين، المتقين، الأبرار، الفجار، المجرمين، الشاكرين، الظالمين» وغيرها إذا تتبعنا استخدامات أي منها سنصل إلى نتائج ربما لم نكن على دراية بها، أو على أقل تقدير ستزداد معرفتنا بتلك المفردة بشكل أعمق.
«الأبرار» مفردة قرآنية وردت في الكثير من الآيات، وفي هذه الدقيقة وما بعدها محاولة قاصرة لتتبعها واستجلاء بعض معانيها وآثارها من خلال القرآن نفسه.
الآية الأولى التي تستوقفنا هنا هي قوله تعالى: «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ».
وفيها أكثر من وقفة:
الأولى: في هذه الآية إخبار عن البر «وهو مصدر» باسم الذات «مَنْ آمَنَ» إما للمبالغة كما يقولون، تماما كما هو العكس أيضا، أي الإخبار عن اسم الذات بالمصدر، كقوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً» ولم يقل «غائرا». أو أنه عدول ”عن تعريف البِر بالكسر إلى تعريف البَر بالفتح ليكون بيانا وتعريفا للرجال مع تضمنه لشرح وصفهم وإيماء إلى أنه لا أثر للمفهوم الخالي عن المصداق ولا فضل فيه، وهذا دأب القرآن في جميع بياناته فإنه يبين المقامات ويشرح الأحوال بتعريف رجالها من غير أن يقنع ببيان المفهوم فحسب.“ أو لأن القائم بالصفات المذكورة هو البِر نفسه يمشي على الأرض، كما قال تعالى: «وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى».
الثانية: البر هو موقف عملي يعم كل مفاصل الدين من العقيدة «مَنْ آمَنَ» والأعمال «وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ» «وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ» والأخلاق «وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ». أما الادعاءات الفارغة الخالية من دسم العقيدة والأعمال والأخلاق، فهي لا تعني في ميزان الحق شيئا. فتجسيد البر في الخارج هو المطلوب، ويكون ذلك من خلال الإتيان بالصفات العشر المذكورة في الآية.
الثالثة: العقيدة الصالحة تسبق العمل، وتؤسس له. فالإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين تقدم على الإنفاق وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، لأن ذلك هو الكلم الطيب «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ».
الرابعة: البر لا يُنال إلا بالبذل والعطاء مما يحبه الإنسان «وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ» «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ». فمثل هذا الإنفاق يكشف عن قوة الإيمان ومتانة الإرادة والعزيمة.
الخامسة: تغيير العطف بعطف الاسم «وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا» على الفعل «مَنْ آمَنَ» بدلا من قوله «ومن أوفى بعهدهم» ربما فيه إشارة لتحول الوفاء إلى ملكة راسخة فيهم.
السادسة: لماذا لم يقل «والصابرون» باعتبارها معطوفة على «وَالْمُوفُونَ» وقال «وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ»؟
قال المفسرون إنه أتى بها منصوبة على الاختصاص والمدح لبيان أهمية الصبر وعظيم شأنه في المواقف الثلاثة المذكورة، أي في حالات الفقر والمرض والقتال.