حقيقة النظر إلى الذات المقدسة
بسم الله والحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، محمد وآله الطيبين الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
إن عقيدة التوحيد لله سبحانه وتعالى من أهم المسائل العقائدية التي يقوم عليها ويؤسس عليها الدين ، وأنها الركيزة الأولى لمعرفة حقيقة الذات المقدسة ، ومنها نصل لحقيقة توحيد الله سبحانه وتعالى ، كما أن التوحيد هو الطريق الحقيقي لإثبات صفات الكمال والجمال له جل شأنه ، وأيضا بمعرفته الحقيقية تنتفي صفات الجلال له ، وأن العقيدة الصافية هي توحيده كما أراد هو جل شأنه بأنه: هو الواحد الأحد والفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ، وأنه خالق وليس بمخلوق ورازق وليس بمرزوق ، يخلق تبارك وتعالى ما يشاء ، ويفعل ما يشاء ويُصوِّر ما يشاء كما يشاء ، من دون التعارض مع صفاته وجلاله ، ولا يجوز نسب القبح له بما لا يتناسب معه جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه ، وتعالى عن أن يكون له شبيه أو نظير، ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير.
لمعرفة الحقيقة الكونية التي يتكون منها الوجود ، نحن بحاجة لمعرفة الأساسيات التالية:
- واجب الوجوب: يلزم وجوده ويمتنع عدم وجوده ، وهو ثابت لا يتغير، موجود بذاته ، الموجود الذى وجوب وجوده من ذاته ولذاته - أى لم يكتسب وجوده من أى شيء آخر وهو الضرورى الوجود الذى يترتب على عدم وجوده ، فيلزم من هذا أنه كان فيما لم يزل ممكن الوجود بذاته ، وهو الأزلي الأبدي.
- ممكن الوجود: هو الذي يستمد وجوده من غيره , فهو إذا موجود بغيره لا بذاته ، فهو لا يلزم وجوده ولا يلزم عدمه ، بمعنى آخر أن وجوده غير ضروري وكذا عدمه فهو متساوي الطرفين.
- ممتنع الوجود: هو ما يكون وجوده مستحيلا كاجتماع النقيضين ولا يمكن ان يوجد بحال من الأحوال.
أما صفات الذات المقدسة فهي تندرج في التالي:
- صفات الجمال والكمال: وهي صفات حقيقية ثابتة له جل شأنه ، كالعلم والقدرة والغنى والإرادة والحياة ، وهي صفات ذاتية.
- الصفات الثبوتية: وهي إضافية كالخالقية والرازقية والتقدم والعلية فهي ترجع في حقيقتها إلى صفة واحدة حقيقية القيومية منه لمخلوقاته.
- الصفات السلبية: التي تسمى بصفات ( الجلال:لأنها تُجِلُ الله تعالى و تنزّهُهُ عن النقص) ، وهي ترجع جميعها إلى سلب الجسمية والصورية والحركية والسكونية والثقل والخفة وما إلى ذلك ، بل سلب كل نقص عنه جل وعلى.
عندما نفهم هذه الحقيقة ونعلم كيف هي ، يتبين لنا كيف يفكر المجسمة وكيف ينظرون للذات المقدسة..؟ ، وما هو تصويرهم إياها....! ، ينظر المجسمة للذات المقدسة بالتصوير ، وأن لها جوارح مادية تليق بجلاله ، كالوجه ، واليد ، والساق ، والعين وما شابه ذلك ، فما يتصوره هؤلاء وجها فهو وجه ، والإنسان بمفهومه الفطري يذهب لهذا الوجه المادي الذي يراه ، فعندما تقول يليق بجلاله هل يعني أنه وجه أكبر حجما أو أقل أو ماذا...؟ وكيف يليق بجلاله ، وهو يقول ليس كمثله شيء...؟ ، والوجه الذي يليق بجلاله شيء أم لا...؟ ، فكيف ما كان في النهاية فهو وجه محدود وملموس مهما كان شكله أو حجمه أو بأي معنى وصف ، وهذا ما لا يليق بجلاله وعلو شأنه.
نقل البخاري في صحيحة هذا الحديث: حدثنا عبد بن حميد حدثنا يونس بن محمد حدثنا شيبان عن قتادة حدثنا أنس بن مالك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لا تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع فيها رب العزة تبارك وتعالى قدمه فتقول قط قط وعزتك ويزوى بعضها إلى بعض....! ، أما يعني هذا تصور واضح له بالجسمية ، وأنه وضع قدمه المادية التي نفهمها جميعا أنها بصورة القدم الملموسة والمحسوسة ، وهذا تحديد لتلك العضو ، وبمجرد أنك حددت هذا الجزء منه فقد حددته كله ، ووضعت له هذا التصور ، وإذا حدد أصبح معدود وصار له مكان وحيز خاص ، ووجد في ذلك الوضع والحيز والمكان ، وكذلك خلت منه كل الأمكنة الأخرى ، وبهذا أخرجته من واجب الوجود إلى ممكن الوجود ، بمعنى آخر اخرجته من الموجد المكون إلى المخلوق المحدود.
حقيقة المجسمة أنهم فهموا ظاهر الآيات بمعانيها اللفظية من دون النظر إلى حقيقة المعنى ، فمثل هؤلاء لم يعرفوا الله حق معرفته ، فمن عرفه كما يجب مجده كما يستحق ونزهه عن كل شيء كما نزه نفسه هو بذاته جل شأنه ، والتوحيد له هو إعطاءه صفاته التي أعطاها نفسه جل وعلا ، والتي هي عين ذاته ، أما الألفاض الجسمية التي تطرق إليها القرآن الكريم في بعض آياته كاليد ، والساق ، والعين ، والنزول والعروج وما شابه ، فإنه عمل لا يليق بجلاله وشأنه ، والإعتقاد به أو التفكير فيه أمر يخرجك من دائرة العبودية إلى دائرة الإنحراف في التوحيد ، وهذا من المفارقات العجيبة والأمور الغريبة التي تنسب لله سبحانه وتعالى.......
عندما تنظر لمن عرف الله حق معرفته كيف يصف الذات المقدسة ، فهذا مولانا الإمام الباقر عليه السلام عندما سئل لمثل هذا السؤال في تعريف الذات المقدسة يقول: (روى الصدوق عن عبد الله بن سنان عن أبيه قال : حضرت أبا جعفر ( محمد الباقر) ، (عليه السلام) فدخل عليه رجل من الخوارج فقال له : يا أبا جعفر أي شيء تعبد ؟ قال : الله ، قال : رأيته ؟ قال : لم تره العيون بمشاهدة العيان ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ، لا يعرف بالقياس ، ولا يدرك بالحواس ، ولا يشبه بالناس ، موصوف بالآيات ، معروف بالعلامات ، لا يجور في حكمه ، ذلك الله لا إله إلا هو ، قال : فخرج الرجل وهو يقول : الله أعلم حيث يجعل رسالته).
- ذهب البعض كالأشاعرة ومن يحذوا حذوهم في قول أن الله سبحانه وتعالى لا يرى في عالم الدنيا ، وهذا متفق عليه عند الكل ، وأكده القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى مخاطبا نبي الله موسى عليه السلام : (ربِّ أرني أنظر إليك) ، فكان الرد إياه: ((لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربُّه للجبل جعله دكاً وخرّ موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أوّل المؤمنين).
- إذا كان لا يرى في حال الدنيا وهذا متفق عليه كما أسلفنا ، فكيف يزعم البعض بأنه يرى في عالم الآخرة..؟ : الجواب لهذا السؤال يلخص في ثلاث نقاط:
o هل الذات المقدسة في الدنيا تختلف عن الذات المقدسة في الآخرة...؟.
o هل النظر المادي بالنسبة للإنسان في حال الدنيا ، يختلف عن النظر المادي في الآخرة....؟.
o هل قوانين الآخرة تختلف عن قوانين الدنيا...؟.
من الواضح أن الذات المقدسة في حال الدنيا والآخرة هي نفس الذات ، وتحمل نفس الصفات والمواصفات ، ولا تختلف في الدارين ، وإنما الإختلاف على الإنسان من ناحية الحساب والعقاب فقط ، إذا قوانين الدنيا والآخرة تنطبق على الذات المقدسة تماما ، ولا تختلف ، ولو قلنا غير ذلك للزم التعدد للذات المقدسة ، وهذا كفر والعياذ بالله ، وكذلك الإنسان في الدنيا هو نفس الإنسان في الأخرى ، يتغير فقط عامل الوقت والزمن والجسد ، وأنه يوم حساب وليس عمل ، أما روح الإنسان في الدنيا هي نفس روح الإنسان في الأخرى ، يلبسها الباري جل شأنه جسمها المادي التابع لها في الدنيا على بعض الروايات أو يغيره ، حسب ما يقتضيه الباري جل شأنه لعبده في الأخرى ، وهي نتيجة لجميع أفعال العبد التي مر بها.
فكيف يمكن رؤية إله الأخرى إذا كان نفس إله الدنيا الذي ليس كمثله شيء ، وقد أكد القرآن ثبوت عدم رؤيته في عالم الدنيا ، إذا من البديهي تطابق نفس الرؤى على الأخرى بعدم الرؤية ، كما أن العين المادية لا تستطيع النظر للشمس وهو ضوء بسيط ، فكيف تتحمل النظر لنور الذات المقدسة ، وليس المقصود بالنور هذا النور المادي ، فلا يمكن رؤيته لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وأن رؤيته تتناقض مع كثير من الأمور لعدة أسباب:
- إله الحياة الدنيا ، وإله الأخرى هو واحد لا غير ، وتنطبق عليه جميع الصفات في الدارين ، ولا تختلف إحداهما عن الأخرى.
- أن النظر إلى الذات المقدسة خارج عن إطار العبودية ، لأنه يدخل ضمن الخواص السلبية للذات المقدسة ، كما أوضحنا أعلاه ، والمسمات أيضا بالصفات الجلالية.
- نزع الصفات عن الذات المقدسة في الآخرة ، يوحي بالاختلاف عن الذات المقدسة في الحياة الدنيا وهذا يلزم التعدد ، ولا يقول بهذا مسلم.
- إن صفات الجوارح كلها تدخل ضمن الصفات السلبية عنه في الدنيا والآخرة ، كالجسمية وما يتبعها من تفريع كاليد والعين والساق وما شابهه. وإنها تندرج تحت العرف الكلامي للتشبيه ، التي تعارفت عليه العرب ، فعندما أقول اقبل بوجهه علي ، أي توجه إلي بمقدم وجهه ، واستخدم لفظ الوجه لأنه المركز الرئيسي للمواجهة ، وليس المقصود بها ذات الجارحة ، ونفس المعنى ينطبق على المعاني الأخرى كاليد وما شابه.
- عدم قدرة الإنسان على معرفة نفسه الملموسة والمحسوسة التي هي مخلوقة بين يديه ، وعدم الإلمام بمعرفة محتواها ، وهي التي يقلبها متى يشاء وهو عاجز عن معرفة حقيقتها ، فكيف يمكن القدرة على معرفة المسبب لهذا الوجود وواجده.
- إن القول بالنظر إلى التركيبات الجسمية التي أشار لها القرآن الكريم ، يلزم مجموع أمور:
-أنه محدود
-أنه جسم
-إذا فإنه معدود
- له حيز ومكان ، فإذا وجد في مكان خلا منه المكان الآخر.
- بهذه الصفات أخرجناه من موجد الوجود إلى ممكن الوجود وهذا لا يكون إله ، لأن صفاته صفات المخلوقين.
يلخص كل التوحيد في ما نقله لنا سيد المتكلمين وإمام المتقين علي بن أبي طالب عليه السلام حين سأل: هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين . . ؟ فقال : أفأعبد ما لا أرى . . ؟ فقال السائل : وكيف تراه . . ؟ قال : لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان ، قريب من الأشياء غير ملامس ، بعيد منها غير مباين ، متكلم بلا روية ، مريد لا بهمة ، صانع لا بجارحة ، لطيف لا يوصف بالخفاء ، كبير لا يوصف بالجفاء ، بصير لا يوصف بالحاسة ، رحيم لا يوصف بالرقة ، تعنو الوجوه لعظمته ، وتجب القلوب من مخافته ، قريب من الأشياء غير ملامس ، بعيد عنها غير مباين ، صانع لا بجارحة ، لطيف لا يوصف ، بصير لا يوصف ، رحيم لا يوصف ، كل شئ خاشع له ، كل شئ قائم به ، غنى كل فقير، وعز كل ذليل ، وقوة كل ضعيف ، ومفزع كل ملهوف . من تكلم سمع نطقه ، ومن سكت علم سره ، ومن عاش فعليه رزقه ، ومن مات فإليه منقلبه ، لم ترك العيون فتخبر عنك ، بل كنت قبل الواصفين من خلقك ، لم تخلق الخلق لوحشة ، ولا استعملتهم لمنفعة ، ولا يسبقك من طلبت ، ولا يفلتك من أخرت ، ولا ينقص سلطانك من عصاك ، ولا يزيد في ملكك من أطاعك ، ولا يرد أمرك من سخط قضاءك ، ولا يستغني عنك من تولى عن أمرك ، كل سر عنك علانية ، وكل غيب عندك شهادة ، أنت الأبد فلا أمد لك ، وأنت المنتهى فلا محيص عنك ، وأنت الموعد فلا منجى منك إلا إليك ، بيدك ناصية كل دابة ، وإليك مصير كل نسمة ، سبحانك ما أعظم شأنك ، سبحانك ما أعظم ما نرى من خلقك ، وما أصغر عظيمة في جانب قدرتك ، وما أهون ما نرى من ملكوتك ، وما أحقر ذلك فيما غاب عنا من سلطانك ، وما أسبغ نعمك في الدنيا ، وأصغرها في نعم الآخرة ، وارتفع عن ظلم عباده ، وقام بالقسط في خلقه ، وعدل عليهم في حكمه . . صدق مولانا أمير المؤمنين عليه السلام...........
وهل بعد كلام أمير المؤمنين كلام ، هذا هو إعتقاد مدرسة أهل البيت في التوحيد ، ولكن رأته القلوب بنور الإيمان وحقيقته ، والعقول بالبصيرة وليس بالبصر، وأن عقيدة التوحيد هي الأساس للنجاة أو الهلكة ، وعليها تقوم الشريعة ، كما أن تنزيه الخالق عن مثل هذه التفاهات هو التوحيد الخالص لله سبحانه وتعالى وأساس الدين ، وهذا ما سعت إليه مدرسة أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين عبر الأزمان ، لإرساء هذا التفكير في توحيده كما يجب ، أما تفكير المجسمة فدخيل علينا وهو من تفكير اليهود والنصارى وضعه أعداء الإسلام في مناهجنا حتى اعتبره البعض منهجا لا حياد عنه.
إلهي هَبْ لي كَمالَ الانْقِطاعِ إليك ، وأنر أبصار قُلُوبِنا بِضِياءِ نَظَرِها إليك ، حَتّى تَخْرِقَ أبصار الْقُلُوبِ حُجُبَ النورِ فَتَصِلَ إلى مَعْدِنِ الْعَظَمَةِ ، وَتَصيرَ أرواحنا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ.