الحكمة والشكر»
المتتبع لآيات القرآن الكريم يجد أن الحكمة منحة إلهية يؤتيها الله من يشاء من عباده، وأنها منّة عظيمة يختار الله لها أهلها. والآيات في هذا كثيرة نختار منها: «وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ» «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً» «وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ» «فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» «وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ».
وهنا نطرح سؤالين:
ما المقصود بالحكمة في القرآن؟
لماذا فسرت الحكمة بشكر الله في سورة لقمان؟
جواب السؤال الأول كما قال صاحب التحقيق بعد تتبعه لأصل الكلمة بأن الحكمة ”فِعْلة تدل على نوع خاصّ من الحكم، وهو ما كان من الأحكام الراجعة إلى المعارف القطعيّة والحقائق المتقنة المعقولة.“ أما صاحب تفسير الميزان فقال بأن ”الحكمة على ما يستفاد من موارد استعمالها هي المعرفة العلمية النافعة“. وقد تبنى هذا التعريف أيضا صاحب تفسير منية الطالبين، وبيّن بعض مصاديق الحكمة بقوله: فمعرفته سبحانه بما له من الصفات والأفعال من مصاديقها، كما أنّ معرفة كمال النفس الذي يعبّر عنه بعلم الأخلاق من مصاديقها، أو معرفة ما يُعدّ كمال العائلة الذي يعبر عنه بتدبير المنزل، ويمكن أن يُعدّ من الحكمة ما فيه صلاح المجتمع الذي يعبَّر عنه بالسياسة المدنية.
والذي يدلّنا على سعة المفهوم أنّه سبحانه بعدما أفاض في سورة الإسراء في ذكر موضوعات متعدّدة، وصف الجميع بالحكمة، وقال: «ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ» والموضوعات هي: توحيده سبحانه، والإحسان إلى الوالدين، وإيتاء ذي القربى حقّه، والنهي عن الإسراف والتقتير، وعن قتل الأولاد خشية الإملاق، واقتراف المعاصي الكبيرة كالزنا وقتل النفس، والتطفيف في الكيل والوزن، والمشي في الأرض مرحاً.
وعلى هذا فكلّ معرفة مُحكَمة غضّة طريّة في كلّ زمان ومكان لا تندرس بمرور الأزمنة، تُعدّ حكمة تكمن فيها سعادة الفرد والمجتمع. انتهى كلامه.
أما أهل العرف واللغة فقد قالوا بأن الحكمة هي وضع كل شيء في محله. وهذا التعريف يمكن أن يندرج تحت التعريفين السابقين، لأن وضع كل شيء في محله يحتاج إلى معرفة علمية صحيحة تكون ذات أثر خارجي في السلوك.
وهذا يقودنا لجواب السؤال الثاني حيث إن الشكر في حقيقته هو وضع النعم في مواضعها، وهذا يتطلب معرفة المنعم ومعرفة النعم بما هي نعم ومعرفة مواضعها الصحيحة التي ينبغي أن توضع فيها. وذلك كله يعني الحكمة. فشكر نعمة العقل مثلا يكون باستخدامه فيما يحقق للإنسان سعادة الدارين «إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ»، وهكذا شأن بقية النعم من صحة ومال وجاه وقوة وغيرها مما لا يُحصيه العادّون.
في ضوء هذا نفهم تفسير الحكمة بشكر الله في قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ». فالشكر موقف عملي يقوم على أساس معرفي متين عماده الحكمة «اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ». وقد أوتي داوود الحكمة كما أخبر عن ذلك القرآن.
أخيرا قد يخطر ببالك سؤال: هل الحكمة مختصة بالمؤمنين فقط؟
والجواب بالنفي، فالوجدان يؤكد وجود بعض الحكمة عند غير المؤمنين أيضا. ولذا ورد عن الإمام علي قوله: ”الحكمة ضالة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق“. وهذا يطرح سؤالا آخر: كيف ينسجم هذا مع القول بأن الحكمة منحة يختص الله بها من يشاء من عباده؟
والجواب: إن غير المؤمن قد يؤتى بعض الحكمة نتيجة بعض رياضاته وممارساته وخبراته، ولكنها دون الحكمة التي يؤتاها الأنبياء وأتباعهم، والتي تكون سببا للحياة الطيبة الراضية المرضية «وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ» «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ».