آيات لكل صبّار شكور «2»
إجابة على الأسئلة المطروحة حول الآيات الأربع المختومة بقوله: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» نقول:
1 - لماذا اختصت الاستفادة من الآيات بالصبّار الشكور دون غيره؟
عند التأمل في إشارات القرآن لمختلف آيات الله العظيمة، نجد تركيزا على صفات المنتفعين حقا بكل آية أو مجموعة آيات. والأمثلة على ذلك كثيرة؛ منها قوله تعالى: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ» وقوله: «إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ» وقوله: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» وقوله: «وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ». فهذه الآيات مثلا قد ينتفع بها غير المذكورين، ولكن الانتفاع لن يبلغ مداه الأكمل بالعبور منها إلى منشئها ومدبرها إلا عند أولئك المتلبسين بتلك الصفات. وهو موضوع يستحق بحثا معمقا يمكن أن يأتي منه الباحث بنتائج باهرة.
وإذا تأملنا الآيات التي كانت خواتيمها «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» سنجدها تذكر أمورا تحتاج كثيرا لصفتَي الصبر والشكر. فمثلا «أيام الله» في قوله: «وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» تحتاج للصبر لتحقيق النصر، ومن ثم الشكر على نعمة الله «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ». وهكذا الأمر في بقية الآيات.
2 - لماذا جيء بالصفتين «صبّار شكور» على صيغة مبالغة؟
الآيات الأربع خُتمت بهاتين الصفتين ربما لتذكّر بالأهمية البالغة للاتصاف بهما مجتمعتين اتصافا في حدوده العليا ليكون الإنسان أهلا للتفاعل مع آيات الله تفاعلا عميقا وليس سطحيا.
فهذه الآيات تشير إلى أمور أو مواقف يحتاج الإنسان فيهما لهذين الأمرين أيما احتياج، مما يجعل الممارسة العرَضية للصبر أو الشكر شيئا غير ذي جدوى.
فالحاجة ماسّة لتحويل الصبر والشكر إلى عادة أو ملَكة راسخة في الإنسان، وهذا لن يكون إلا بالصبر بعد الصبر والشكر بعد الشكر.
3 - لماذا قُدّمت «صبّار» على «شكور» في الآيات الأربع؟
عند تأمل إحدى الآيات الأربع مع تتمتها قد نكتشف سبب التقديم.
الآية مع تتمتها تقول: «وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ. إِنْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ. أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ» فهي تشير إلى كون راكب البحر بين الخطر والسلامة، وأن الشكر الحقيقي في ذلك الموقف لا يكون إلا عند المتصفين أولا بالصبر وضبط النفس، القادرين على التصرف بحكمة.
كذلك الأمر في قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» حيث تأتي الآية التي بعدها لتتحدث عن تقلب حال الإنسان عند اضطراب حال البحر وبعده: «وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ». بينما الصبّار يظل متماسكا مستمسكا بحبل الله في بلائه، شاكرا لنعمائه في رخائه.
4 - هل من فرقٍ بين الصيغتين «فعّال وفعول» في أداء المبالغة؟
ذكر الدكتور فاضل السامرائي في جواب له عن سؤال مشابه ما ملخصه أن صيغة «فعّال» تستخدم كثيرا للدلالة على الحرفة، كنجار وحداد وعطار.
ومن هنا فإن صفة صبّار تدل على أن صاحبها جعل من الصبر حرفة له لكثرة اعتياده على ذلك.
أما صفة «فعول» فهي تستخدم للدلالة على المواد، كالوقود والبخور، فصفة شكور تدل على أن صاحبها جعل من نفسه مادة للشكر، وأنه شكر كله. ومن هنا فإن صيغة «فعول» أعمق في صيغة المبالغة من «فعّال».
والإنسان مهما بالغ في شكر نعم الله، فإنه لن يبلغ من مقدارها شيئا «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها».
5 - ما أهمية هاتين الصفتين بالنسبة لحياة الإنسان؟
لا شك أن هاتين الصفتين مهمتان لحياة الإنسان بشكل عام؛ فبالصبر على الطاعة وعن المعصية وعلى الشدائد ينال الإنسان خير الدنيا والآخرة «إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ»، وبالشكر يحقق عبوديته الخالصة لله «إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً» فيبلغ مرتبة الإنسانية الحقة. ومع الأهمية البالغة للصبر والشكر التي تحدثت العديد من الآيات عنها، إلا أن المتصفين بذلك قليل «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ».