لماذا استعجلت الرحيل يا شكري ؟
بالرغم من قلة لقاءاتي معه ، إلاَّ أنه في كل مرة تجمعني معه الصدفة أحس وكأنني أقرب مخلوقات الله إليه ، يبادلك الإحترام ، يسارع إلى مصافحتك ، يتحاشى أن ينظر إليك من شدة حيائه ، لا يسبقك في إلقاء تحية الوداع حتى تُقرِّر أنت ذلك ، شحيح في كلامه مع من هم أكبر منه سناً ، يُجيد فن الإصغاء الذي يفتقد إليه الكثيرون ، تعليقاته تخضع لرقابة شديدة منه خوفاً من أن يجرح مشاعر من يتحدث معه ، ورغم حداثة سنِّه إلاَّ أنه حقق نضجاً ملحوظاً في ميدان العمل الإجتماعي ، وطوّع ذاته من أجل بناء علاقات إتصال فاعلة مع الآخرين .
من هنا فإنني - كغيري - لم أُفاجأ بالمظهر المهيب لموكب تشييعك ( رحمك الله ) إلى مثواك الآخير ، عبارات التكبير والتهليل التي انطلقت بغصة حرى من الحناجر المثكولة بفقدك ، جمعها حبك الذي إتفقت عليه رغم إختلاف خرائطها الفكرية ، فكان هديرها الحزين يهزُّ النفوس ، ويعاود التأكيد على مكانتك الرصينة في قلوب المشيعيين
الذين توافدوا زرافات لوداعك وأنت في رحلتك الميمونة إلى جنة الخلد والرضوان .
تلك الرايات السوداء التي بينك وبينها عشقا أبدياً كانت ترتعش حزناً وهي ترافق نعشك خطوة بخطوة ، رأيتها في أكثر من موضع تحاول ملامستك ، أظنها كانت ترغب في أن تطبع قبلة الوداع على جبينك الوضاء بنور السماء ، كنت أسمعها تناديك بصوت يفيض تحنانا عليك قائلة : لماذا استعجلت الرحيل ؟ ًلأنها تبدو عطشى ليديك تمسك بها في المناسبات المعهودة ، لأنها لم ترتوي بعد من ضمها إلى صدرك الذي تفوح منه المحبة والوداد .
إنني أعلم يقيناً أنك كنت تشهد يوم جنازتك دون أن نشعر بك ، كنت سعيداً بالناس من حولك ، تسمع نياحهم الذي كان يقطِّع مهجتك ، وأعلم أنك كنت تعتذر لهم عن هذا الرحيل المبكر عنهم ، وأعرف تماماً أنك لن تفارقهم ليل نهار ، تنام في جفونهم وتتجدد في ذاكرتهم ، بسيرتك العطرة ، وسلوكك القويم ، فكم كنت أراك تود أن تفزَّ من نعشك مرات عديدة لتشكرهم على مشاعرهم الجياشة نحوك ، وتعتذر لهم عن ما سببته لهم من ألم وحزن برحيلك المفاجئ عنهم .
وأنا في زحمة هذا المشهد الرهيب ، شدّ إنتباهي إبنك الموفق ( أحمد ) كنت أراقبه بين لحظة وأُخرى ، رأيته متماسكاً ، يشدُّ أزر من حوله ، وبالرغم من مشيته التي أثقلها حزنه عليك ، وفقده إليك ، إلاّ أنه كان في مستوى الموقف والمسؤولية ، وكأنك أعددته لهذه اللحظة الحرجة بإمتياز ، فلقد فاق في تصبره وتجلده الكثيرين من أترابه ، رأسه الذي طأطأه أرضاً براً بك وأنت ترقد بسلام على الآلة الحدباء السائرة في وسط موج بشري حنون ، كان يُعلن حالة من الثقة والشموخ زرعتها فيه منذ نعومة أظافره فكان عند حُسن ظنك به . ولكن رغم هذا سيحتاج ناسك – يا عزيزي - وقتاً ليس بالقصير ليتمكنوا من الإنتقال من حالة الإنكار إلى حالة الإقرار بفقدك ورحيلك عنهم ، والخروج من هول الصدمة بالرغم من إيمانهم بالقضاء والقدر . أليس كذلك يا شكري ؟
رحمك الله وأسكنك فسيح جناته ، وألهم أهلك الصبر والسلوان إنه سميع مجيب .