ولا تكن من الغافلين
قد نلتفت للأمراض التي تصيب أبداننا لا سمح الله، فنُهرع إلى الطبيب بحثا عن علاجها. وقد يكلفنا ذلك الكثير من المال والجهد والوقت، ولكنه أمر مطلوب لا يشك في ضرورته اثنان، حفاظا على صحة البدن وعافيته، كي يتمكن الإنسان من ممارسة حياته بصورة طبيعية. أما ما لا يُلتفت إليه غالبا فالأمراض التي تفتك بنفوسنا وأرواحنا وعقولنا، فتصيبها في المقتل، دون أن يشعر المصاب بشيء، وذلك لانشغاله بالبدن وحاجياته على حساب النفس والروح والعقل.
ومن أشد تلك الأمراض فتكا، ومن أبعدها عن الالتفات والتنبه، مرضُ الغفلة الذي يمكن أن نصِفه بالنوم في عسل الأماني الخادعة والآمال الكاذبة التي تحرف مسيرة الإنسان عن طريقها الصحيح، وتشغله عن هدفه بأمور لا طائل من ورائها، تنتهي به إلى الهلاك والخسران، فيستيقظ بعد فوات الأوان، وبعد صافرة النهاية، فيقال له: «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ».
الغفلة قد تكون فردية، أو جماعية تصيب مجتمعا من المجتمعات، وقد تكون عن مستقبل دنيوي أو عن مستقبل أخروي، أو عن الاثنين معا. والغافلون هم الذين يعيشون في مربع العاجل المُلح ذي الأهمية الدنيا، أو الذي لا أهمية له البتّة. فهم أُسارى الواقع لا يتجاوزونه إلى غيره، ولا يفكرون خارجه، تثقلهم قيود النظر القصير، فيحسبون أنهم يحسنون صنعا، ولا يدركون ما هم فيه من بلادة الإحساس، وعمى البصيرة.
القرآن وصفهم أبلغ وصف مبيّنا مصيرهم الذي اختاروه حين عطّلوا إعمال ما أوتوه، فلم يستثمروه في وجهه الصحيح، وأضاعوا البوصلة، فكانوا كما قال الإمام علي : ”لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِأَضْوَاءِ الْحِكْمَةِ، ولَمْ يَقْدَحُوا بِزِنَادِ الْعُلُومِ الثَّاقِبَةِ، فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالأَنْعَامِ السَّائِمَةِ، والصُّخُورِ الْقَاسِيَةِ“ وكانوا بعد ذلك لجهنم حطبا، كما قال تعالى: «وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ».
والغريب أن مفسرا كبيرا كالفخر الرازي قد فهم من هذه الآية تأييدا لمذهبه في الجبر وانتصارا لما يقول به في مسألة خلق الأفعال وإرادة الكائنات، وكأن مسبقاته الفكرية جعلته لا يلحظ بدقة الصفات الواردة في أهل الغفلة المستوجبة لدخولهم جهنم والعياذ بالله، ونعني بها قوله: «لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها». وهذا أمر يدعو كل متدبر في كتاب الله تعالى لأن يتخلص قدر الإمكان من حمولاته الذهنية المسبقة التي توجه فهمه من حيث لا يشعر.
ولو عاد الرازي إلى قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ. أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ» لاتضح له المراد وقرُب من السداد.
وعودا للغفلة فإن من أهم أسبابها الانقطاع لظاهر الحياة الدنيا وحسبانُ أنه كل شيء دون التعمق في ما وراء الظاهر، وذلك ناتج عن سطحية التفكير المنتجة لسطحية الاهتمامات: «يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ». ومن أسبابها أيضا قلة الاعتبار بتجارب الآخرين وعدم أخذ الدروس والعبر منها، فالغافل لا يهتم بقراءة التاريخ، ولا يجهد نفسه في استنطاقه واستشراف مستقبله: «وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ». ومن أسبابها البعد عن ذكر الله ذكرا حقيقيا يذكّر الإنسان بربه وبنفسه وبمصيره: «وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ».