كيف نتلو القرآن؟
هل سألت نفسك يوما وأنت تقرأ قوله تعالى: «سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ»: لماذا وردت كلمة «بِغَيْرِ الْحَقِّ» هنا؟ بل لماذا وردت كلمة «فِي الْأَرْضِ» قبلها؟ وهل من إضافات للمعنى بسببهما؟
وهل توقفت يوما وأنت تتلو قوله تعالى: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ» فطرحت على نفسك سؤالا: كيف تجتمع الغفلة عن الشيء مع الإعراض عنه؟ فالغفلة هي عدم الانتباه للشيء المغفول عنه، والإعراض هو انصراف عن الشيء بعد الانتباه إليه.
هذه الأسئلة وأمثالها تجعل من القارئ للقرآن متأملا متدبرا يحاول استكشاف جماليات التعبير القرآني، وما فيه من أسرار ولطائف تزيد من علاقة التالي للكتاب بالكتاب، فتراه يلتذّ بتلاوته ويستأنس بآياته. وهو ما حضّ عليه القرآن نفسه في أكثر من آية، كقوله تعالى: «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً»، وهو ما ينبغي أن نشيعه في أوساط مجتمعاتنا حتى نقترب من القرآن، وتتوطد أواصر روابطنا به، ليكون هو ربيع قلوبنا في كل حين، ولنكون ممن وصفهم الإمام علي بقوله: تَالِينَ لأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلًا، يُحَزِّنُونَ بِه أَنْفُسَهُمْ ويَسْتَثِيرُونَ بِه دَوَاءَ دَائِهِمْ، فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً، وتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً وظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبُ أَعْيُنِهِمْ، وإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ، وظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ.
نعود الآن للأسئلة التي طرحناها في البداية لنحاول البحث عن إجابات عنها:
أما جواب السؤال الأول، فإن كلمة «بِغَيْرِ الْحَقِّ» كما قال صاحب التحرير ”لتشنيع التكبر بذكر ما هو صفة لازمة له، وهو مغايرة الحق“. وقد نضيف على ذلك أنها لبيان أهمية الحق وضرورة الالتزام به، وفظاعة مخالفته، تماما كما في قوله تعالى: «وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ».
أما جواب الثاني فقد يكون لبيان شيوع تكبرهم في الأرض وانتشاره في مختلف بقاعها التي هم فيها. ومن ذلك قوله تعالى: «فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ».
وأما الثالث فقد اختلف في جوابه المفسرون، فقال الزمخشري في الكشاف: ”وصفهم بالغفلة مع الإعراض، على معنى: أنهم غافلون عن حسابهم ساهون، لا يتفكرون في عاقبتهم، ولا يتفطنون لما ترجع إليه خاتمة أمرهم، مع اقتضاء عقولهم أنه لا بدّ من جزاء للمحسن والمسيء، وإذا قرعت لهم العصا ونبهوا عن سنة الغفلة وفطنوا لذلك بما يتلى عليهم من الآيات والنذر، أعرضوا وسدّوا أسماعهم ونفروا“. وهذا معناه أن الإعراض يأتي بعد التنبيه من الغفلة.
وذكر الألوسي في روح المعاني أن بعض الأفاضل قال: يمكن أن يحمل الإعراض على الاتساع كما في قوله:
عطاءُ فتى تمكن في المعالي وأعرض في المعالي واستطالا
وذكره بعض المفسرين في قوله تعالى: «فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ» فيكون المعنى وهم متسعون في الغفلة مفرطون فيها. ويمكن أيضا أن يراد بالغفلة معنى الإهمال كما في قوله تعالى: «وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ». انتهى كلامه.
أما السيد الطباطبائي في الميزان فقد أجاب عن ذلك بأنهم ”تعلقوا بالدنيا واشتغلوا بالتمتع فامتلأت قلوبهم من حبها فلم يبق فيها فراغ يقع فيها ذكر الحساب وقوعا تتأثر به حتى أنهم لو ذُكّروا لم يذكروا وهو الغفلة فإن الشيء كما يكون مغفولا عنه لعدم تصوره من أصله قد يكون مغفولا عنه لعدم تصوره كما هو حقه بحيث تتأثر النفس به“. وبإعادة تفسير الغفلة يرفع صاحب الميزان ظاهر التنافي في الجمع بين الغفلة والإعراض.
هذه الوقفات والإضاءات وأمثالها يمكن أن نتخذ منها منهجا نستفيد منه في التفاعل مع كتاب الله وآياته، يقربنا من تلاوته حقّ تلاوته.