إصلاح المجتمع درس حسيني
لم يكن الإمام الحسين من الذين يديرون ظهورهم للناس، ويتغافلون عن هموم المجتمع وقضاياه لينعموا براحة البال والبدن وسلامة المشاعر، ويتفرغوا بالكامل لمتابعة مصالحهم الشخصية. هؤلاء الأشخاص موجودون في كل عصر ومصر، وينتهي ذكرهم وتأثيرهم بمجرد أن يغيّبهم الموت أو المرض، ولكن ذكر الحسين وذكر من سار في طريق الإصلاح على خطى الحسين باقٍ وسيبقى إلى أن يشاء الله -سبحانه وتعالى-.
كانت تشوب المجتمع الإسلامي قبيل وأثناء حركة سيد الشهداء الكثير من الشوائب في مختلف المجالات لاسيما الأخلاقية منها، حتى أن الأمر وصل إلى ما ذكره المسعودي عن زمن يزيد بن معاوية-لعنه الله- حيث "ظهر الغناء بمكة والمدينة واستعملت الملاهي وأظهر الناس شرب الشراب"(1)، فنهض الحسين وأعلن بيان الثورة المتضمن لهدفه من هذه الحركة المباركة فقال: "إني لم أخرج أشِراً ولا بطرًا، ولا مفسداً ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في "أمة" جدي".
نعم، خرج الحسين لطلب الإصلاح، ولكن أي إصلاح؟
هذا ما يبينه استخدام لفظ "في أمة"، فقد كان الإصلاح الشامل لمختلف شؤون الأمة هدف الحسين الرئيسي، ولا شك ولا ريب أن الإصلاح الإجتماعي يتربع في صدارة هذا الإصلاح حيث ترتكز عليه جميع الإصلاحات الأخرى، فهو يشكل القاعدة والانطلاقة الأولى لتحقيق أي إصلاح منشود في أي مجال آخر. يتضح هذا المطلب أكثر عندما نتمعن في الجزء المتبقي من تصريحه: " أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي" فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيرة رسول الله وأمير المؤمنين رغم شمولها لجميع مناحي الحياة إلا أنها كانت تتمحور حول تغيير الواقع الفاسد في المجتمع، لأن فساد المجتمع يكبل الفرد أو يدمره ويشل الأمة، ويحول بينهما وبين وصولهما لأهدافهما وطموحاتهما، فهذا رسول الله قد حارب العادات الجاهلية المقيتة من وأد البنات وظلم العبيد وإشعال الحروب لأتفه الأسباب وغيرها من العادات والممارسات، وكذلك فعل أمير المؤمنين حينما قاوم التمييز وتفضيل العرب والأغنياء وأصحاب النفوذ والمقربين من السلطة على غيرهم من البشر.
لم يستخدم مولانا الحسين معجزة ولم ينتظر نزولها من السماء لتحقق هذا الهدف، بل نهض وثار كالبركان وسارع في التحرك لتغيير الواقع الفاسد بالعديد من الطرق -كما سنذكر لاحقا-، لأنه كان مدركا أن التغيير والإصلاح الإجتماعي لا يأتي عبر المعاجز وإنما عبر المشاركة الفاعلة من أفراد المجتمع وجماهير الأمة فـ "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ"، وعندما لباه كل حجر ومدر وجاءت صفوف الملائكة تترى لم يأذن لهم بنصرته لأنه أراد البشر أن يتحرك لا المَلَك أو الجماد، وكذلك فعل الرسول الأعظمحيث استمر في الدعوة 13 عاما في مكة حتى تكوّن المجتمع الإسلامي من المهاجرين ومسلمي المدينة، وهكذا يفعل ابنه الإمام المهدي المنتظر(عج) حيث ينتظر تهيؤ الأمة للمشاركة الفاعلة في حركة الإصلاح المتممة لحركات جميع الأنبياء والأوصياء.
واقعنا الإجتماعي اليوم ليس بأفضل مما كان عليه الحال في زمان الإمام الحسين وثورة كربلاء -إن لم يكن أسوأ من ذلك الزمان أصلا-، فاليوم نرى مجتمعتنا الذي كان معروفا حتى الأمس القريب بالسلم والأخلاق الرفيعة قد تكاثرت فيه السرقات والسطو المسلح، وتحول فيه الحجاب من وسيلة عفاف إلى أداة فتنة، وترك فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرات، وانشغل فيه كل إنسان بنفسه صارفا وجهه عن مجتمعه بل وحتى عن أقرب الأقارب والأرحام، وافتقرت مؤسساته التطوعية والخيرية الكثيرة إلى الكوادر الشابة –من الجنسين- بينما يتكدس شبابه في المقاهي والأسواق ويحرقون زهرة أعمارهم أمام شاشات الكمبيوتر والتلفاز بمشاهدة ما لا يفيد ويسارعون لساحات التفحيط بالسيارت والدراجات النارية ويتزاحمون على أبواب المطاعم وفي المجالس والديوانيات التي لا تنفعهم لا في دنياهم ولا في أخراهم، وغير ذلك الكثير. أفلا يستدعي ذلك منا نهضة سريعة لمعالجة هذا الواقع قبل تفاقم الأمور وتوليدها لمشاكل أكبر وأكبر؟ ألا تحرك فينا مراسم عاشوراء وشعاراتها روح التمرد على كل انحراف؟ ألا توبخنا على كل تقصير وتحملنا مسؤولية نتائجه الوخيمة؟
وهنا نطرح سؤالا آخر لنكون على بينة من أمرنا، وهو: هل علمتنا عاشوراء كيف نمارس الإصلاح والتغيير؟
* وسائل الإصلاح الاجتماعي على ضوء النهضة الحسينية
أولاَ: تعزيز وتشجيع المظاهر والسلوكيات الطيبة والحميدة لتكون الشموع التي تساهم في تبديد الظلام من حولها، فالكثير من الناس ينتقدون المظاهر السلبية ولكنهم يغفلون عن إبراز وتشجيع المظاهر الإيجابية. وأقل ما يمكن تقديمه في هذا المجال هو الدعم المعنوي والكلمة الطيبة تجاه هذه المظاهر والسلوكيات والابتعاد عن التـثبـيط و النقد الهدام.
لقد أبرز الإمام الحسين كل سلوك إيجابي مّر به وشجعه وجعل منه رمزا تاريخيا لا يزول بطول المدة ومرور الزمن، فقدّر موقف أنصاره ليلة عاشوراء حينما رفضوا مغادرة كربلاء وتركه وحيدا، فقال: "إني لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرَّ ولا أوصل من أهل بيتي"، ووهب لقب الثقة لمسلم ابن عقيل فقال عنه: "ثقتي من أهل بيتي"، ودعا لأبي ثمامة الصيداوي عندما تذكر أمر الصلاة في أول وقتها وسط أجواء المعركة يوم عاشوراء، وقلّد حبيب ابن مظاهر الأسدي أوسمة الشرف التي كان منها: "الرجل الفقيه".. ذو الشيمة والغيرة.. الفاضل الذي يختم القرآن في ليلة واحدة، والكثير الكثير من الأمثلة الأخرى.
ثانيا: تعرية الفساد ليدرك الناس حجم المأساة ولئلا تلتبس عليهم الأمور ويتردد بعضهم في دفع ثمن الإصلاح. من يتأمل خطابات وتحركات الحسينيجدها مليئة بهذا النوع من التوعية ابتداء من توضيح انحرافات يزيد الأخلاقية -ولم يكتف به، بل فضح غيره من الحكام بوصفهلهم بأنهم قد "أظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء"-، ومرورا بسلوكيات الجيش الأموي الفاسدة كالكذب، وأكل الحرام، والطاعة العمياء أو العبودية للقادة والأموال، ونقض العهود والمواثيق، والجبن، وانعدام المبادئ والمنطق، وعدم التحلي بأخلاقيات الحوار، ويكفيك وصفه لهم بـ "عبيد الأمة، وشذّاذ الأحزاب، ونَبَذَة الكتاب، ومحرِّفي الكَلِم، وعصبة الآثام، ونفثة الشيطان، ومطفئي السنن.. أخبث ثمر، شجى للناظر وأكلة للغاصب"، وانتهاءً بتعرية خاذليه، وتبيين بعض المظاهر العامة في الأمة مثل قوله: "الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درَّت معايشهم، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلَّ الدَّيانون".
ثالثا: التحرك العملي في الإصلاح، فقد تحرك حتى بذل مهجته الطاهرة في هذا السبيل مما أحدث صدمة كبيرة نزلت على الأمة كالصاعقة فزلزلت المجتمع الإسلامي ودفعت به نحو التحرك لإزالة أسس الفساد.
رابعا: توفير البديل لأنه –غالبا- من غير الممكن للمجتمع أن ينبذ الانحراف ما لم يوجد البديل الإيجابي الكفؤ والمناسب. وخلال نهضته المباركة نلاحظ أن الحسين كان يطرح نفسه وخطه بأنه الخيار الأول والأفضل والأمثل للأمة ويقارن بينه وبين غيره من الأشخاص والتوجهات ليتبين للناس انعدام المقارنة –في الأصل- بينه وبين غيره. نجد بعض هذه الأمثلة في قوله عند أول رفض لبيعة يزيد: "إنا أهل النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة وبنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجل فاسق شارب للخمر قاتل النفس المحرمة معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله"، وفي قوله: "وأنا أحق من غيَّر" الذي أتبعه في نفس الخطبة بقوله لمن بلغه كلامه عبر جميع العصور: "ولكم فيَّ أسوة".
فهل نتأسى بالحسين في ما بذله من جهد وجهاد لإزالة الفساد وما سلكه من طرق للتصحيح، ونسعى في إصلاح واقعنا الإجتماعي المر وتصحيح انحرافاتنا وسلوكياتنا السيئة، أم نبقى نندب الحسين ونبكيه بدموع باردة لا تثير فينا تلك القيم المتناثرة في كل زاوية من زوايا هذه الملحمة الخالدة؟
هل نخرج من عاشوراء وقد دبت فينا روح التغيير التي نفخها الحسين، أم نكون كالخشب المسندة التي لا تعي لما حولها؟
إن من يدخل مآتم سيد الشهداء ويستحضر مقاصده العظيمة، حقَّ عليه أن لا يخرج منها إلا وقد عقد العزم على الصلاح والإصلاح والتغيير نحو الأفضل.