وما أدراك ما الرزق!
«اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ»
الحديث عن الرزق ينصرف عادة في أذهان الناس للمال، وكأنه المصداق الحصري الوحيد للرزق. فلا يُلتفَت للصحة والعلم والأولاد والجاه والزوج الصالح أو الزوجة الصالحة أو القدرات العقلية أو الذكاءات المتعددة أو النجاح في تنشئة أبناء صالحين أو السمعة الطيبة أو غيرها من النعم التي لا تُحصى عددا على أنها من الرزق أيضا. والسبب في ذلك يعود لتأثير المال القوي في الحياة وجاذبيته في النفوس: «وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا»، فالناس يتصارعون ويتقاتلون من أجله حتى أصبح إلها يعبد من دون الله.
والتفكير غير الرصين في الرزق / المال ربما يُدخل الإنسان في متاهة لا يخرج منها إلا من كان على نور من ربه، ولذا قال الشاعر:
كم عاقلٍ عاقلٍ أعيت مذاهبهُ * وجاهلٍ جاهلٍ تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرةً * وصيّر العالم النِّحرير زنديقا
فهل الرزق يأتي بالاكتساب فقط؟ أم له أسبابه الأخرى؟ وهل يُبسط للبعض ويُقبض عن البعض الآخر هكذا من غير حكمة ومصلحة؟ أليس الله الغني المطلق قادرا على إغناء الناس جميعا؟ لماذا لا يفعل ذلك، وهو الذي لا تنفد خزائنه؟ أسئلة كثيرة تدور في الأذهان منذ مئات السنين ولا تزال.
الآيات التي تتحدث عن الرزق كثيرة جدا؛ منها ما يجعل الله وحده مصدرا للرزق، كقوله تعالى: «أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ»، ومنها ما يجعله تعالى، وهو العليم الخبير، المتصرفَ في الرزق بسطا وقبضا: «إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً»، ومنها ما يذكر أنه جلّ شأنه جعل التفاوت في الأرزاق بين الناس وفق ما تقتضيه حكمته من ابتلاء الناس فيما آتاهم، وابتلاء بعضهم ببعض: «وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ» «وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ» «نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا»، ومنها ما يبين تكفل الله بالرزق: «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها» وأنه يرزق المؤمن والكافر: «وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً»، ومنها، ومنها...
ومن خلال تلك الآيات وغيرها يمكن أن نتبين التالي:
1 - ”إن الرزق يستند إلى أمرين: السعي وإرادة اللَّه معا، فمن ترك السعي عاش كَلاًّ على الناس، ومن سعى رزقه اللَّه من سعيه إن شاء كثيرا، وإن شاء قليلا“. لذا، فالمطلوب من الإنسان أن يسعى لرزقه مجتهدا دون تكاسل، وأن يسأل الله من فضله: «فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ» أو كما في الدعاء: ”وسعةً في الحال من الرزق الحلال“.
2 - رزق المال الوفير عند شخص لا يعني أنه ازداد من الله قربا، ففرعون وقارون وأمثالهما كانوا في أوج الغنى المادي «وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» «إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ».
3 - الغنى والفقر كلاهما ابتلاء من الله تعالى: «فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ».
4 - إن عدم بسط الله الرزق لكافة العباد هو من رحمته بهم، كما قال تعالى: «وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ» وقال: «وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ. وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ. وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ».
5 - الإنسان يفرح بالمتاع الزائل «وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ»، والله يعيد توجيهه لما هو أسمى: «وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ».
فلنفهم فلسفة الرزق بشكل أعمق كي نعيش حياة أفضل.