ثقافة الصورة
حينما ظهرت العولمة لأول مرة في القرن السادس عشر الميلادي، كانت ظاهرة حديثة ومثيرة وصفت آنذاك بالعالمية، وبعد عدة عقود ترسّخت مفاهيمها وأهدافها وآلياتها وتأثيراتها، وتحوّلت لنهج يرتكز على أربع قواعد أساسية وهي: المنافسة الشرسة بين القوى العالمية، وانتشار الإنتاج وتبادل السلع، والتقنية بشقيها الإعلامي والمعلوماتي، وتقويم الأداء والتحديث المستمر.
والكتابة عن العولمة كظاهرة أسست للكثير من الأفكار والثقافات والتموجات الحديثة التي مازالت تداعياتها وإفرازاتها وتأثيراتها حاضرة بقوة في وقتنا الراهن، قد تكون منطلقاً منطقياً للكتابة عن ”ظاهرة الصورة“ التي أصبحت تُشكّل وتُصيغ وتُوجه كل تفاصيل حياتنا، الصغيرة والكبيرة. ورغم أن الصورة كانت موجودة في بدايات النشأة البشرية، إلا أن العولمة أدركت قيمتها وخطورتها وسرعة انتشارها ومدى تأثيرها، فاستخدمتها ووظفتها كحصان طروادة لكسب معركتها الكبرى ضد كل تلك الأشكال والأنماط التقليدية التي كانت تقود أدوات التعبير والتأثير.
لقرون طويلة، كانت الكلمة هي الوسيلة المثيرة والوظيفة الأثيرة، وهي أداة التعبير والتفكير، وهي مدرسة الاتصال والتأثير، ولكنها لم تعد كذلك، حيث بدأت شيئاً فشيئاً تتخلى عن الكثير من أدوارها واستخداماتها لمنافستها الشرسة المتمثلة بالصورة، الأمر الذي مهّد لأن تُصبح الصورة هي أداة العصر الحديث.
والصورة كعنوان كبير لهذا العصر البصري المتسارع، تشمل كل الأشكال والأصناف التي تنتمي لدائرة الصورة، سواء كانت ثابتة أو متحركة. وإذا كانت الكلمة هي وسيلة الثقافة والتأثير لدى النخب، فإن الصورة قد أصبحت قوة ناعمة مؤثرة بيد كل مكونات وتعبيرات المجتمعات بمختلف مستوياتهم التعليمية والثقافية.
للصورة قدرات وإمكانات لا تصلها الكلمة مهما أوتيت من سحر وقوة، فالصورة لغة يفهمها كل البشر، وتفاصيل لا تحتاج إلى تبيان أو ترجمة، وهي قادرة على التسلل والإقامة في الذاكرة تستحضرها بلحظات كلما دعت الحاجة لذلك، وهي التفاصيل القادرة على صناعة السحر والدهشة، وهي معجزة وسائل التواصل الاجتماعي التي تقود وتُسيّر حياتنا، وهي الواقع الذي يمكن إنتاجه وتداوله بكل يسر وسهولة بين البشر، وهي الصناعة التي لا تحتاج للكثير من الضوابط والقيود ولكن إلى مجرد ضغطة زر، وهي العنوان الدقيق لكل ملامح الاختصار والمباشرة، وهي الرمز العصري الذي يملك كل مفاتيح وأسرار الحياة.
لقد تحوّلت الصورة التي تلتقط كل حركاتنا وسكناتنا، بل وكل تفاصيلنا الصغيرة والكبيرة، إلى ثقافة عصر وأسلوب حياة.