مع آية التخفيف
«الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ».
المجتمع الإيماني ليس مجتمعا من الملائكة «لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ». بل هم مجموعة من البشر يمرون بحالات مختلفة من القوة والضعف، والحماسة والانتكاسة، والعروج والهبوط، فإيمانهم ويقينهم وصبرهم لا تكون بذات المستوى عند كل أحد في كل وقت أو في كل ظرف. والإسلام باعتباره دينا واقعيا يلحظ هذا الأمر بدقة، ويضع تشريعاته المناسبة في هذا الإطار، إذ «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها» و«لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها».
ومن منطلق عدم معصومية المجتمع الإيماني، تحدث القرآن في آيات عدة منتقدا بعض الحالات التي حدثت في ذلك المجتمع في مواقف معينة، مبينا الخلل الذي حدث، وموجِّها لما ينبغي أن يكون. وفي هذا من الدروس والعبر الكثير، حين يعلمنا أن المجتمع ليس فوق النقد، وأن الحديث عن الانتكاسات والإخفاقات، إذا أحسنّا إنتاجه، سيكون استثمارا ذا عوائد كبيرة في المستقبل.
لنتأمل مليّا في قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ» وفي قوله: «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ».
أما الآية التي استُهلّ بها المقال، فإنها تبيّن رحمة الله بعباده، ولطفه بهم حينما انكشف ضعفهم وبانت آثاره، وقد علم الله ذلك منهم قبل انكشاف الحال وبعده. فهذه الآية التي جاءت مباشرة بعد قوله: «إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» التي محصلها دعوة المؤمنين أن يثبت الواحد منهم للعشرة من الكفار، فجاءت آية التخفيف للدعوة إلى ثبات المؤمن الواحد للاثنين من الكفار.
وقد قال كثير من المفسرين إن آية التخفيف تنسخ التي قبلها، غير أن السيد الخوئي في تفسير البيان رأى أن ”تقييد إطلاق هذه الآية «إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ» بآية التخفيف المذكورة مؤكد لبقاء حكمها ومعنى ذلك: أن الفرار من الزحف محرم في الشريعة الاسلامية إذا لم يكن عدد المسلمين أقل من نصف عدد الكفار، وأما إذا كان المسلمون أقل عددا من ذلك فلا يحرم عليهم الفرار، وهذا ليس من النسخ في شيء“.
والمتأمل في الآيتين معا يلحظ عدة أمور جديرة بالانتباه:
1 - التركيز على صفة الصبر في الفئة المؤمنة في كلتا الآيتين «عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ» «مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ» لبيان أهمية الصبر في تحقيق النصر.
2 - تعليل الغلبة في الآية الأولى بالفقه «يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» فبيْن الفقه والنصر علاقة متينة.
والمقصود بالفقاهة هنا أن ّ ”المؤمنين يعرفون نهجهم الذي سلكوه ويدركون الهدف من خلقهم وإيجادهم، ويؤمنون بنتائجه الإيجابية في هذا العالم، والثواب الجزيل الذي ينتظرهم في العالم الآخر، فهم يعلمون لم يقاتلون؟ ومن أجل من يجاهدون؟ وفي سبيل أي هدف مقدس يضحون؟ وعلى من سيكون حسابهم إذا ما ضحوا واستشهدوا في هذا المضمار؟ فهذا السير الواضح المشفوع بالمعرفة يمنحهم الثبات والصبر والاستقامة“.
3 - إن هذا الفقه هو المرجح الأكبر لثقل كفة المؤمن في مقابل الكافر كما يظهر من الآية الأولى، لأن الصبر المشفوع بالفقه يجعل النفس ترقى في سجاياها الفاضلة كالشجاعة والإقدام والثبات وغيرها بقدم أشد رسوخا في أرض المعركة.
4 - العامل الرئيس المؤثر في حسم المعركة هو العامل الداخلي النفسي «وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً».
5 - النصر لا يكون إلا من عند الله وبإذنه، وهو تعالى دائما مع الصابرين.