الفتنة حين تعُمّ
«وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ».
الفتنة بحسب صاحب التحقيق في كلمات القرآن الكريم هي كل ما أوجب اختلالا مع اضطراب، ”ولها مصاديق: كالأموال، والأولاد، والاختلاف في الآراء، والغلوّ في الأمر، والعذاب، والكفر، والجنون، والابتلاء، وغيرها إذا أوجب الأمرين“ «أي الاختلال مع الاضطراب».
وأصلُ الفتْن كما يقول الراغب في مفرداته: إدخال الذّهب النار لتظهر جودته من رداءته، واستعمل في إدخال الإنسان النار. قال تعالى: «يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ» «ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ».
والآيات القرآنية التي تتحدث عن الفتنة بمصاديقها المتعددة كثيرة جدا، نختار منها:
«وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ» «ِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً» «رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» «إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ» «وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا» «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ» «وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ».
أما الآية التي صدّرنا بها المقال، فيأتي حولها سؤالان:
الأول: ما هي الفتنة التي يدعونا الله تعالى لاتقائها واجتنابها في هذه الآية؟
الثاني: ما معنى «لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً»؟ فهل الحديث فيها عن فتنة تعمّ آثارها الظالم وغير الظالم؟ وإذا كان هذا هو المقصود: فلماذا تعمّ غير الظالم أيضا؟!
أما الجواب على السؤال الأول، فقد ذكر أغلب المفسرين أن المقصود بالفتنة هنا هو الذنب الاجتماعي أو العقاب عليه. وذكروا أمثلة للذنب الذي تعم آثاره السيئة الجميع الصالح والطالح، كإقرار المنكر في المجتمع، والمداهنة في الأمر بالمعروف، وتفرق الكلمة، وظهور البدع وغيرها. فالقرآن في آيات عدة تحدث عن آثار لذنوب لا يرتكبها فرد واحد من الناس، وإنما يقترفها بعض المجتمع، كقوله تعالى: «ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» وقوله: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» وقوله: «وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ». كما تحدث القرآن عن كتاب خاص بالأمّة كأمّة، وهو غير كتاب الفرد: «وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».
وأما الجواب على الثاني، فقد احتمل بعضهم أن المعنى عدم اقتصار الفتنة على الظالمين منكم فقط، بل تشمل الظالمين من غيركم. غير أن قليلا من التأمل في اللسان التحذيري الشديد للآية لا يؤدي إلى قبول هذا الرأي. بل يؤدي إلى تبني الرأي الآخر القائل بأن الفتنة الاجتماعية لا تقتصر آثارها على فاعليها فقط، بل تمتد إلى غيرهم لعدم تحملهم المسؤولية الاجتماعية المطلوبة لوأد الفتنة واستئصال شرورها. إنّ معنى الآية يؤول، كما يقول صاحب الميزان، "إلى تحذير عامة المسلمين عن المساهلة في أمر الاختلافات الداخلية التي تهدد وحدتهم وتوجب شق عصاهم واختلاف كلمتهم، ولا تلبث دون أن تحزبهم أحزابا وتبعضهم أبعاضا، ويكون الملك لمن غلب منهم، والغلبة لكلمة الفساد لا لكلمة الحق والدين الحنيف الذي يشترك فيه عامة المسلمين.
فهذه فتنة تقوم بالبعض منهم خاصة وهم الظالمون غير أن سيء أثره يعم الكل ويشمل الجميع فيستوعبهم الذلة والمسكنة وكل ما يترقب من مر البلاء بنشوء الاختلاف فيما بينهم، وهم جميعا مسئولون عند الله والله شديد العقاب. "
أما الجواب عن: لماذا تعم الفتنة غير الظالم؟ فأحد أجوبته أن المجتمع يمثل سفينة واحدة يركبها الجميع، وبالتالي فإن إحداث خروق فيها ينتهي إلى إغراق من فعل ومن لم يفعل. وهذا أمر واضح لكل مطلع على أحوال المجتمعات، وما تمر به من رخاء أو كساد، أو قوة أو ضعف، أو صحة أو مرض، أو حياة أو موت.