منحة المحنة
لماذا تواجه إمكانية وجود تأثير للحياة العقلية على المرض الجسدي كل هذه المقاومة ، لا سيما من أنصار المذهب المادي ؟ ولماذا يقاومون المبدأ القائل بأن الفكر والعواطف قد تكون ذات تأثير على الجسد ؟
ويعتقد أصحاب المذهب المادي أن الجهاز المناعي بجسم الإنسان يكون منفصلاً تماماً عن الحالة النفسية !! وهم يؤمنون كذلك بأن المتغيرات النفسية كالتفاؤل والأمل هي أمور غامضة ، ومبهمة ، ووهمية كالأمور " الروحانية " حسب إعتقادهم . من هنا فهم يُشككون في مصداقية الإدعاءات التي تقول بأن التفاؤل ، والإحباط ، واليأس ، والحرمان تؤثر على الجهاز المناعي للإنسان . وهم ينسون أو يتناسون – مع الأسف – أن الجهاز المناعي متصل بالمخ ، وأن حالات الذهن كالشعور بالأمل يكون لها تأثيرات عقلية مقابلة تعكس الحالة النفسية للإنسان . هذه الحالات العقلية تؤثر بعد ذلك على بقية الجسد تبعاً لنمط التفكير سلباً أو إيجاباً .
وبعيداً عن خزعبلات أصحاب المذهب المادي ، وشكوكهم الزائفة ، فإن العقل البشري يحكمه " كنظام " ثلاثة عشر قانوناً ، منها " قانون الإنعكاس " وهو يعني أن ما ترسله للمخ يرتد عليك ، فإن أنت أرسلت إليه رسالة سلبية ، فإنه سيردها إليك كما هي دون زيادة أو نقصان ، والعكس صحيح ، ولذا فإن المضليين الذين يقفزون بمضلاتهم من الطائرات المحلقة في عنان السماء لا يحدثون أنفسهم بالموت والهلاك ، بل يُحفِّزون ذواتهم بالقوة والتفاؤل والشجاعة والأمل ، وإلاَّ لن يتمكنوا من ممارسة القفز والسباحة في الفضاء إنْ هم فكروا بعكس ذلك لأن الخوف سيهزمهم لا محالة .
والحال كهذا فإنه إذا ما أراد شخصٌ ما تغيير ما يشعر به ، فإن عليه أولاً تغيير ما يفكر به ، لأن الشعور ما هو إلاَّ إنعكاس لنمط التفكير ، وليس أدل على ذلك من تلك المشاعر الحزينة التي خيَّمت على نبي الله يعقوب " عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلوات وأزكى التسليم " إتساقاً مع ما كان يدور في فكره من شكوك حول مدى حرص أخوة نبي الله " يوسف " عليه السلام على سلامته ، وما كان يدور في خلده " عليه السلام " وتيقنه من فساد نيتهم ، ومكرهم ، وإهمالهم ، وغيرتهم القاتلة منه . قال تعالى : ﴿ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴾ (13) سورة يوسف .
ولعلمي أنه إذا كان الحداد والشعور بالإحباط يؤديان إلى إضعاف الجهاز المناعي مؤقتاً ، فإن التشاؤم وهو حالة تستمر مع الإنسان لفترة أطول لكونه يمثل أحد الأنماط الشخصية للبشر ، يمكن أن يُضعف نشاط الجهاز المناعي على المدى الطويل ، لأن المتشائمين يصابون بالإحباط كثيراً وسريعاً ، وهذا قد يعني كون أجهزتهم المناعية أضعف بكثير بشكل عام .
إن ما دفعني لتناول هذه العلاقة الطردية المتلازمة بين التشاؤم والتفاؤل من جهة ، ومدى قدرة وكفاءة الجهاز المناعي في جسم الإنسان على المقاومة الإيجابية لكل عارض صحي أو نفسي يجتاح الإنسان من جهة أُخرى ، ما يتمتع به " المهندس جاسم " من إرادة فولاذية ، وعزيمة لا تخور وهو يمر بهذا العارض الصحي الذي ألم به ، وأسأل الباري عز وجل أن يشفيه منه ، ويمن عليه عاجلاً غير آجل بأثواب الصحة والعافية ، ويستجيب دعاء المؤمنين .
ففي كل مرة تحظى بزيارته يستقبلك بتلك الإبتسامة العريضة ذات الإشراقات المتتالية ، يرحب بك ، يبادلك المشاعر الدافئة ، يقوم على خدمتك ، ويلثمك بثغرٍ قدسيٍ ليغرس في مشاعرك نبتة الخلود . يُشنِّفُ أذنيك بحديثه الهادئ الرزين الزاخر بالإيمان والعزيمة والصدق ، والنُبل ، والثراء ، فيفيض سحراً أبيضاً لا يسعك إلاَّ أن تستسلم لأسراره التي لا تنتهي ، وتستمتع بعبق طيبه الذي لا يشيخ .
لن أتناول مشاعري الشخصية فهي تستعصي على عادتي في البوح والوضوح ، وإنما ما ذكرته كان عبارة عن إعادة صياغة لمشاعر كريمة سررت لسماعها من مختلف المؤمنين الذين تجمعهم به معرفة ولو لحين ، فما أجمل أن يكون الحديث في ظهر الغيب لئلا يقلَّ قدره ، أو يفقد مضمونه . فيستقر في غير موضعه ، وتذهب ريحه .
حدَّثني أحدهم عنه بمحبة وإعجاب قائلاً : " ليتني أملك بعضاً من هذه العزيمة والإصرار التي يتمتع بها المهندس " فأجبته ممازحاً : ما سر ذلك يا تُرى ؟ فقال : إنه الإيمان ، والتعلق بالباري عز وجل ، ونبيه ، وأهل بيته الأطهار . فقلت له : هذا بالتحديد السر الذي يكمن خلف " هذه البراعة التي تلمسها في تعامله مع الأزمة " إنه " قانون الإعتقاد " لأن الإعتقاد هو فكرة في عقلك الواعي ، هذه الفكرة تجعل القوة في عقلك الباطن توزع على جميع مراحل حياتك وفقاً لعاداتك في التفكير ، وبهذا فإن كل تجاربك وأفعالك وكل الأحداث والظروف التي في حياتك ما هي إلاَّ إنعكاس ورد فعل للإعتقاد الذي في عقلك . فقال مبتسماً : بالتأكيد . إنه وفقاً لإيمانك وثقتك تجري الأمور بداخلك وتشع إلى الخارج ، وهذا الإشعاع الإيماني الذي ينبعث منه رضاً وثقة في رب العزة والجلال هو أسمى تجليات الإعتقاد الإيجابي الراسخ الذي يتمتع به " أبو أحمد " فكما هو بارع في الهندسة المعمارية ، فهو كذلك أيضا في " الهندسة العقلية " وأضاف قائلاً : إنني أعتقد أنه لا ينظر لهذا العارض الصحي على أنه " محنة " بل " منحة " وفرصة ذهبية لإعادة قولبة الذات وإقتناص فرص التحسين ، وتعزيز القدرات ، وصقل المهارات ، والتكيف مع التغييرات. فقلت له : صدقت . وافترقنا . قال تعالى : ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾ (2) سورة العنكبوت .