متى يصمت الطبالون ؟
الطبال هو من يمتهن مهنة الضرب على الطبلة ، وهذه المهنة من المهن الموغلة بالقدم إذا لم تكن من أقدم عشر مهن بالتاريخ، فكما جاء باليوكيبيديا "يعتبر الطبل آلة قديمة فهو معروف منذ عام 6000 قبل الميلاد وكان للطبل أو بعض أنواعه منزلة كبرى عند قدماء السومريين والبابليين في بيوت الحكمة وفي الهياكل الدينية وكان صوت الطبل الكبير بالاق يعني دعوة الآلهة لأن يفرض هيبته على سكان الأرض لكي يسمعوا صوته ويخشعوا لسماعه لأنه الملهم لسائر أعمال الخير والمبرات" ، كما أنه وحتى وقت قصير ( وقبل أن يحتل مكانه التنك ) كان الأداة الفاعلة لدى ( المسحراتي ) في رمضان لدعوة المسلمين لتناول وجبة السحور قبل وقت الإمساك إستعداداً للصيام في اليوم التالي من أيام الشهر الفضيل رزقنا الله وإياكم فضل صيامه وقيامه ، وكذلك إخبارهم بإنتهاء لياليه المباركة وثبوت رؤية هلال عيد الفطر المبارك .
بيد أن لكل زمان ومكان طبالون وزمارون خارج إطار تلك النظم الدينية والتاريخية والفلكلورية يُساهمون في تلميع من لا لمعة له أو من يرغب بل ( يرغبون هم ) لسبب أو لآخر في زيادة لمعانه وبريقه حتى يغشي الأبصار فلا يكاد يرى حتى نفسه من شدة الوهج الذي من حوله ، والهالة المزيفة الكبيرة التي تحيط به من كل إتجاه ، فيرى الخطأ صواباً ، والإخفاق إنجازاً ، والباطل حقاً ، والإنحراف إستقامة والظلم عدلاً . والقطيعة وصلاً ، والخسارة ربحاً ، والتشرذم تماسكاً ...... !!
وتختلف درجة وقوة التطبيل وفقاً لدرجة ومستوى المنفعة والمصلحة المرتدة ممن يطبلون ويزمرون لأفعاله وأهواله ، وكلما إزداد ( التنقيط ) كلما كان ذلك مدعاة وحافزاً لأن يُدمي الطبال يده وقدمه دقاً وتطبيلاً فداء للحبيب دون مبالاة بأصوات الغاضبين ، وهتافات المعترضين ( المتضررين ) من ذلك التطبيل والتزمير المأجور ، فتراهم يصمون آذانهم عن كل صوت لا ينسجم مع جوقتهم ولا يتفاعل مع أنغام معزوفتهم التي لا تطرب إلاَّ من هو سائراً في تيارهم أو عازفاً في فرقتهم ( فرقة الأحلام ) قال الإمام الحسين : (( الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم يحيطونه ما درت معايشهم . فإذا محصوا بالبلاء قلَّ الديانون ))
ولعمري قد يقبل المرء على مضض سماع ضجيج تلك الطبول الخاوية والمزامير البالية ، ولكن الأدهى والأمر والذي يسبب القيئ ويشعر المستمع أو المراقب بالدوخة والدوار ذلك السيل الهائل من التمجيد والتفخيم ، والعبارات الفضفاضة والألقاب المترهلة التي تصاحب ذلك العزف الجماعي الهادر والمخيف ، والمستفز بل والمتحدي للعقل والمنطق ، والمتعالي على كل إحساس صادق وفكر حاذق ، والخارج حتى على علم وقواعد ( النوتات ) الموسيقية الحديثة الهادفة ، والفنون التراثية العريقة الراقية .
لا ضير البتة في أن ينحاز المرء إلى الأعمال الطيبة وأصحابها ، والمواقف الإنسانية ورجالاتها ، فهذا سلوك ممدوح بل ومطلوب لكي يستمر العطاء ويتكاثر سواد النبلاء ، ويزداد البر والإحسان في مجتمع التراحم والتكافل والتعاضد ، فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله . ومن الإنصاف والموضوعية أن يُنسب الفضل إلى أهله ، فيُضم شمله ويتوارث المكارم نسله . فيشيع الخير في المجتمع ، ويتسابق الناس إلى تأسيس المبرات التي يستفيد منها كل الأفراد بغض النظر عن ميولهم ، وتجاذباتهم ، وتصنيفاتهم ، وتقليدهم ، ومرجعيتهم الدينية والإجتماعية والفكرية . لأن الحب هنا في الله ، قال عز وجل : ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا ﴾ (9) سورة الإنسان
من هذا المنطلق ( فالتطبيل المباح ) لأهل العطاء في أي مجال كانوا ولأي جماعة انتسبوا يعتبر من الحوافز الهامة لترسيخ مسألة ( الشعور بالنحن ) وتكريس مشاعر الإهتمام بالشأن العام . حتى وإن تجاوز في بعض الأحيان سقفه . فلا ضير ما دام أن ذلك متناسباً مع المقاسات العامة ، ولا يتسبب في التقليل من الجهود والعطاءات الأخرى المماثلة . حتى ولو لم يعجب من يمسكون بمعاول الهدم ، ولا يرون إلاَّ الجزء الفارغ من الكأس . بل ولا يدَّخرون وسيلة إلاَّ ويقوموا بتوظيفها من أجل التقليل من شأن ذلك التطبيل الجميل الذي ينسجم مع العقل والمنطق ، ويُطرب أغلب أفراد المجتمع . بل ولا يتناهون عن قرع الكؤوس على الطاولة إحتجاجاً على حالة التصفيق البريء للجهود الطيبة التي هم أول المستفيدين منها لأنها للكل ( كعين السبيل ، ومزن السماء ) وليست لفئة دون أخرى .
ما أجمل أن يكف الطبالون عن إيذاء سمع الناس ، وإفساد الذوق العام ،ويخففوا من ضجيج تطبيلهم ، وحدة تزميرهم إذا عزَّ عليهم الصمت لهوى في نفوسهم وخوفاً على مصالحهم ، وتزكية لمعشوقهم ، وتناغماً مع مزاجهم ، وليس من باب الصدفة أن يسيطر الذكور على هذه المهنة ، ويتقنوا فنونها ، ويحتفظوا بمفاتيح أسرارها ، وسيأتي يومٌ يجتاح الذكور فيه سوق الضفة الأخرى لهذه المهنة أيضاً وإحتكار منتجاتها إذا ما استمرت معدلات البطالة في النمو والإزدياد .
أيها الأحبة : كم نحن بحاجة ماسة الى من يرشدنا الى الطريق القويم ، طريق البناء الحقيقي للإنسان ، ولمن يقف بصدق وأمانة أمام الثقافة التي تكرس الأوهام والأضاليل والأحلام الزائفة ، وتجعل من الحبة قُبة ، ومن النملة فيلاً ، ومن الرعد مطراً ، ومن السراب ماءً . ليس من باب التفاؤل والتيمن بالخير . بل من باب المبالغة وإتباع الهوى . وربما سار أحدنا مع جوقة الطبالين والزمارين مسايرة للآخرين . المهم أن يكون لديه الوعي الذاتي والرأي الشخصي الذي يستطيع من خلاله تصحيح المسار في الوقت المناسب . شكراً لكم ، وطيَّب الله أوقاتكم .