حرب في الخليج
يذكر طفولته وإيقاعات قريته التي تمجد الزراعة والبحر، البعض زاول الفلاحة ليخرج من الأرض كنوزها ثمرات يانعة، والبعض غاص في البحر ليخرج اللؤلؤ الثمين أو يأتي محملاً بلذيذ الأسماك الطريقة. الحياة في القرية خلية نحل، تضج الأحياء بالنشاط، يتذكر جيداً أنه سأل والده ذات مرة وهما في طريق العودة من البحر وبين يديه لؤلؤة: «كيف تتكون هذه اللؤلؤة في قلب المحارة يا أبي؟!»، سأله ولاتزال عيونه مثبتة عليها، «إن المحارة تفرز عرقها على أي جسم غريب يدخلها فتتشكل بداخله هذه اللؤلؤة، حتى يأتي دورنا لاستخراجها من داخلها»، هكذا يبدأ الحديث الذي لا ينتهي ووالده يجب عليه بكل صبر وأناة.
السوق مزدهرة بكنوز البحر وثمرات الزرع، والعيش الرغيد تصحبه حبات العرق والعناء، ولكن النوم لذيذ بعد يوم شاق من التعب، يصحبه والده لخوض رحلة بحرية يتراقص فيها الموج وتقذف في أمواجه الشباك التي تسحب محملة بالهامور وأصناف السمك البهية، يتمايل أمجد مع أنغام البحارة ويتراقص مع تراقص الموج، لم يكن يصحبه والده كثيراً في رحلاته لصغره وخشية عليه من المخاطر، سمع مرة تهامس الكبار عن حرب بين العراق وإيران، رغم أن الأمر لا يعنيه لكنه كان يخشى أن تصله قذيفة من هنا أو صاروخ من هناك، حدث والده قبل نومه في تلك الليلة: «أبي.. أبي.. هل تصل الصواريخ لدارنا؟!»، «كلا يا بني، فالحرب لا تعنينا ولسنا شركاء فيها»، يتقلب في فراشه وتخيلات المعارك لا تتوقف في ذهنه، رغم حديث والده المطمئن.
في سن مبكرة فقد أمجد والده فحزن عليه كثيراً، لكنه لم يترك بعض عوائده ومنها مهارات الصيد، التي استمر على مزاولتها أيام العطل، وبين الفينة والأخرى يحدق في السماء لعله يلمح طائرة حربية تعلن عن نشوب قصف بالجوار؛ فيهرع بالاختباء والاختفاء. انتهت تلك الحرب دون أن يعرف من هو المنتصر؟!، مرت سنوات الدراسة سريعة وفي خضم دروسه المدرسية سمع عن حرب أخرى بين العراق وجارتها الكويت، هذه المرة شعر بالخوف الشديد لقرب الكويت من بلدته، أي أن الشرر قد ينال منه شاء أم أبى، يتذكر جيداً دوي صفارات الانذار المتقطعة والمتواصلة التي تصيبه بالفزع، توقفت حينها الدراسة بسبب هذه الحرب التي أصابته بالرعب.
اشترت عائلته أقنعة واقية للحماية من الغازات السامة التي قد يستخدمها الجيش العراقي بقيادة صدام حسين، هلع أمجد وهو يتذكر موت الصراصير حينما يبادوا بالمبيدات الحشرية، تخيل أن له ذات الدور؛ يلاحقه دخان المبيد فيصاب بالرجفة التي لا تفارقه؛ كسعفة في مهب الريح يبقى كلما سمع صوت صفارة الخطر، وكأن السماء يسكنها التنين الذي يمطر الناس لهباً وقذائف، فيأخذ في الجري لداره ويده على أنفه حتى لا تصيبه السموم التي قد تستخدم في أية لحظة.
الكوابيس تنال منه كل ليلة، فتارة يرى جندياً يريد قتله، وتارة يرى في السماء طائرة محترقة تهوي عليه، وأخرى يشعر بالاختناق لأن الرئيس العراقي حشر العالم بالدخان السام الذي يطلق عليه «الكيماوي»، وإذا استيقظ من فراشه تناهى لمسامعه حديث الكبار الذي يزرع الرعب في نفسه وفي نفوس أترابه، والأمهات تتعمد اخافة الصغار وهو بينهم يرتاع بما يسمع، فيضل في زاوية خفية متكوماً على نفسه أو تحت سرير متدثراً بدثار حتى يزول الخطر.
انتهت أزمة الكويت، ولم تتوقف الحروب، فمرة في فلسطين ومرة في البوسنة والهرسك وثالثة في الشيشان، وهكذا عاش أمجد معاناة الخوف من الحروب دون أن يرى دخانها، وجاء الربيع الذي أحال لونه خريفاً وأطرافه شتاءً، فالدماء حين يراها في الطرقات يصاب بالغثيان والدوار، فلا يتمكن من الاتزان حينما يرى عنفاً يسير في الطريق، وما إن انتهى الربيع حتى سمع بمعارك هناك في الحد الجنوبي صواريخ وطائرات مسيرة تحرك للتدمير والتفجير، ترك متابعة الأخبار المؤلمة وعزف عنها، غير أن الجميع ينقل له الصوت وفي مخيلته تكتمل الصورة، واليوم يعيش حالة فوبيا الحرب، بعدما سمع أن هناك معركة جديدة يدور رحاها مع إيران على مياه هذا الخليج.