حدود اللاَّحدود
• لماذا يكره معظم الناس التوقف عند الخطوط الحمراء ؟
• لماذا يعتبرونها تقييداً لحريتهم الشخصية ؟
• لماذا ننظر إلى الخطوط الحمراء في العلاقات العائلية ، والإجتماعية ، والرسمية على أنها مؤشر على العداوة والبغضاء وعدم الرغبة في تمتين العلاقات ؟
• ثم لماذا نسعى إلى التحايل والتذاكي لنتجاوز كل الخطوط الحمراء وكأن شيئاً لم يكن ؟
• ولماذا نستشيط غضباً عندما يخبرنا أحدهم بأن علينا التوقف عند الخطوط الحمراء ونعتبر ذلك بمثابة الإقصاء والإبعاد ، وجرحاً للمشاعر ؟
• ولماذا لا نعترف بالخطوط الحمراء إلاَّ عندما تصب في صالحنا ، وما عداها فألف لا ؟
• وآخيراً وليس آخراً لماذا نحرص على إرسال الرسائل المعلنة ، والمستترة للآخرين بضرورة إحترام الحدود الخاصة بنا ، وعدم تجاوزها ، بينما نبيح لأنفسنا إنتهاك حرمة حدود الغير ، ووضع كل ما يخصهم من خطوط حمراء تحت أقدامنا ؟ !!
إنني لن أجيب على هذه الأسئلة ، لأنني لا أملك الحق في قراءة أفكار الآخرين ، وتحليل دوافعهم السلوكية ، ولكنني سأحاول قدر جهدي البحث في هذه الظاهرة ( الموقف من الخطوط الحمراء ) بإعتبارها في نظر البعض من نواقض المودة والمحبة بين الناس ، وتُقلِّل من وشائج القُربى فيما بينهم ، وتحد من مساحة حريتهم الشخصية .
إنني أعتقد بأن هذه النظرة السلبية للخطوط الحمراء مجانبة للصواب ، وفيها الكثير من الجفاء لحقيقة أهمية الإيمان بوجودها ، والإقرار بحق الآخرين فيها ، وذلك من أجل بناء علاقات إنسانية منضبطة ، سواء على الصعيد العائلي ، أو الإجتماعي ، أو المهني . فكما تُصان حدود الدول والأقطار ، بل ويتم التضحية بالنفس ، والولد ، والمال ، للذود عنها عندما تتعرض للإنتهاك من أي طرف كان ، فإن الحدود الشخصية لها نفس المستوى من الحماية ، والصيانة ، والإلتزام . لأنها تمثل الإعتبار الشخصي والصيرورة الذاتية التي لا يحق لكائن من كان المساس بها تحت أي مبرر كان .
ليس من الخطأ أن تكون كتاباً مفتوحاً للآخرين ، ولكن يجب أن يعلم الآخرون أنهم بحاجة إلى الإلمام بمنهجية قراءة ذلك الكتاب ، فلا يمكن حيازة الإستيعاب هكذا ( من الباب للطاقة ) كما يقولون في المثل الشعبي ، فإذا ما تناولوا قراءته بهذه الصورة المتهورة ، فسيخرجون ( من المولد بلا حمُّص ) كما يقول إخواننا المصريون ولن ينتابهم سوى إضاعة وقتهم ، وجحوظ عيونهم ، وخواء حصيلتهم المعرفية . وهكذا هو الحال في العلاقات الإنسانية ، حيث يتعذر بناء علاقات متوازنة دون الإستناد إلى مجموعة من الضوابط الأخلاقية ، والأعراف البينية ، التي تحفظ هذه العلاقات من الصدأ والتآكل على مر السنين . وتجعلها تتمتع بالصحة والعافية ، وتقاوم كل عوامل الشيخوخة التي تزحف عليها من جميع الإتجاهات بكفاءة وإقتدار .
ربما قال قائل : إنني إستنفذت كل الوسائل من أجل أن أجعل الآخرين يحترمون خصوصيتي ، كما أنا قائمٌ على إحترام خصوصيتهم ، وعن إنتهاك حرمة حدودهم التي وضعوها من أجل صيانة علاقاتهم الإجتماعية ، ولكن دون جدوى !!
وهذه هي الطامة الكبرى في العلاقات الإنسانية بمختلف مجالاتها ، فالبعض يسوِّغ لنفسه الحق في التدخل في شئون الآخرين من حوله ، تحت عناوين مختلفة ، تارة تحت عنوان " ثقافة الأخ الأكبر " الواسعة الإنتشار في عالمنا العربي ، حيث يفرض من هم أكبر سناً وصاية غير مبررة على من هم دونهم في العمر بدافع الحفاظ عليهم ، وإمدادهم بالخبرات الضرورية للسير في الحياة بأمان . وكذلك يقوم الزوج بمصادرة حق زوجته في إدارة شئونها تحت عنوان " القوامة " وكذلك الأستاذ يفرض رأيه على طلبته تحت عنوان " تحقيق المصلحة " وأيضاً يقوم الصديق بممارسة الضغط على صديقه تحت عنوان " المحبة والغيرة " ولكن جميع هذه الممارسات – وإن إفترضنا فيها حُسن النية – إلاَّ أنها تمثل بشكلٍ أو بآخر إنتهاكاً لحدود الآخرين ، وخطفاً مُهذباً لإرادتهم ، وإلغاءً لكل الخطوط الحمراء التي من شأنها ضبط إيقاع العلاقة بين الناس .
لعل من المفيد أن نترك المجال أمام من نحبهم كي يعيشوا حياتهم كما يريدون لا كما نريد نحن ، كما يجب علينا أن نحترم خصوصيتهم حتى لو سبب لنا ذلك بعضاً من الشعور بالضيق أو عدم الإرتياح ، ولكنه على المدى البعيد يعزز من مستوى الثقة المتبادلة ، ويؤسس لعلاقة لا تقوم على القهر والإلزام ، بل قوامها الفهم المشترك ، والإحترام المتبادل ، وصيانة الحقوق .
البعض يستخف بأهمية هذه الخطوط الحمراء ، وينظر إليها على أنها ترسيخاً للتكلُّف ووضع المسافات التي تباعد بين قلوب الأحباب ، ولكن كما تعمد الدول إلى ترسيم حدودها مع من يجاورها من الدول الأخرى " وإن كانت شقيقة " بل وإيداع نسخة منها لدى هيئة الأمم المتحدة ، ومجلس الأمن ، فإن العلاقات الإنسانية تحتاج إلى الترسيم أيضاً حتى يتسنى الوصول إلى حالة من " التطبيع الإجتماعي " والإعتراف المتبادل ، وتبادل سفراء المحبة والتآخي ، والحفاظ على المصالح المشتركة ، وغيرها من الأطر العلائقية التي تصب في مصلحة طرفي الإتصال الإنساني النبيل . وبدون هذه الحدود والضوابط تصبح العلاقة عُرضة للإهتزاز والتلاشي " لا سمح الله " وحتى وإن تغاضى أحدهم عن حالات إنتهاك حدوده من الطرف المقابل لعلةٍ أو لأخرى ، فإنه تتولد في نفسه الرغبة في رد الإعتبار لذاته عندما تتاح له الفرصة عاجلاً أم آجلاً " مهما بلغت درجة تسامحه " .
أرجوكم أيها الأحبة أن لا تمارسوا عملية " تمييع الحدود " مع الآخرين مهما كانت درجة قربهم منكم ، وأن تحافظوا دائماً على هذه " المسافات السحرية " التي ليس لأي علاقة غنى عنها لتتجذر وتنمو في مودة ووئام . أما من يتهمكم بالتكلُّف فإنه لا يعي أهمية أن يكون للورد شوكاً ، ولا لليل ستراً ، ولا للأرض جوفاً . والخطوط الحمراء لا تعني التوقف والجمود ، بل تهيئة النفس للإنطلاق والحركة للتواصل مع الآخرين بلا حدود في حدود .