السخرية والساخرون
كلما تخلف المجتمع فكريا، ارتفعت نسبة ممارسة السخرية من الآخرين كسلوك ذميم بين أفراده. وذلك لأن السخرية تخرج من نفس تشعر في داخلها بأنها في مقام أعلى من الآخر مما يسمح لها باحتقاره وازدرائه، وفي هذه النظرة القاصرة ما فيها من الجهل بالذات وبالآخرين.
إن هذا السلوك ذو آثار وخيمة على صاحبه، فردا كان أو مجتمعا، لأنه يمنعه من مراجعة ذاته وأفعاله وأقواله، ويجعله منصرفا بكله إلى الحطّ من شأن الآخر وقدره وفعله، فلا ينتبه، والحال هذه، إلى نفسه إلا بعد فوات الأوان، كما أنه يفكك عرى المجتمع ويحول بينه وبين التقدم والازدهار. ولهذا وغيره جاء النهي القرآني الصريح عن ممارسة السخرية بين فئات المجتمع المؤمن في قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ».
كان من جملة ما ابتلي به الأنبياء والمصلحون على مر التاريخ السخريةُ منهم ومن أفعالهم من قِبل مناوئيهم. من ذلك ما حدثنا به القرآن عن نبي الله نوح في قوله تعالى: «وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ» وقال مخاطبا نبيه الكريم : «وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» وقال له أيضا: «بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ. وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ. وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ» وقال فيما يلقاه المؤمنون: «زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا» وقال: «الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ».
لقد انشغل الساخرون عن مصيرهم وما يراد بهم، فلم يستثمروا آجالهم في النظر إلى ذواتهم وما ينقصها، بل كانوا مسترسلين مع سلوكهم يمارسون السخرية من الآخرين دون حساب للغد: «أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ» فواصلوا مسيرتهم حتى جاءهم الزجر والشتم والنهي عن الكلام مع الله تعالى في موقف لم يحسبوا له حسابا: «قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ. إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ. فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ. إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ».
هناك تتجلى الحقائق التي غيبها الساخرون عن أنفسهم، فيتعجبون من حالهم ومآلهم: «وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ. أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ».
إن الدرس العظيم الذي ينبغي أن نأخذه من هذه الآيات المباركة هو الإقلاع نهائيا عن اقتراف السخرية، والانشغال بدلا من ذلك بإصلاح ذواتنا بالنظر في معايبها وما تحتاجه لاستكمال طريقها إلى الله.