في ضوابط الحوار والاختلاف
هناك من يدعي الوسطية والاعتدال كمنهج وسلوك، إلا أن خطابهم في الواقع هو غير ذلك البتة. فهم يستخدمون لغة القوة والتعنيف ضد خصومهم ومن يختلف معهم، ويقذفونهم بالكلمات المهينة، ويوصمونهم بأقذع الأوصاف والتهم، ويصل بهم الأمر إلى المس بكراماتهم، والتمادي في التطاول على مقاماتهم ورموزهم، والتحريض ضدهم، فقط لمجرد أنهم يخالفونهم الرأي، ويمكن أن يصل بهم التمادي إلى حد شيطنتهم وتكفيرهم، من دون أي التزام بدين أو قيم، ومن دون أدنى اعتبار لحقيقة الاختلاف والتعدد والتنوع، والتي هي من سنن الله في الكون والحياة.
إن الحوار مع الآخر يتطلب الإصغاء له، واحترام حقه في التحدث، والتعبير عن رأيه بأريحية، مهما اختلفت وجهات النظر في المواضيع والقضايا المطروحة للنقاش، لأن ذلك حق للجميع. إلا أنه من غير المنطقي حين النقاش تقديم الآراء التي تحتمل الخطأ والصواب وكأنها حقائق مطلقة لا تحتمل الخطأ، فيما قد تكون هي مجرد انطباعات شخصية، أو آراء غير مبنية على حقائق واضحة، أو معلومات دقيقة، أو دراسات ميدانية، أو هي فقط إحصائيات غير مؤكدة.
لذلك من المهم حين النقاش الانتباه إلى أن هناك فرق بين الرأي الانطباعي، وبين الرأي المؤسس على المعلومات والحجج والبحوث العلمية والدراسات الميدانية. بالإضافة إلى ذلك يجب الانتباه أيضاً إلى عدم الخلط بين الرأي الذي يحتمل الخطأ والصواب، والحقيقة المسلم بها، أو المتسالم عليها. فالبعض يطرح انطباعاته وكأنها حقائق مطلقة من دون أن يستمع لرأي أهل التخصص والدراية، بل ويحاجج من غير علم ومعرفة، ويقاطع محاوريه بطريقة استفزازية، مما يصعب عليهم التعبير عمَّا يجيش في وجدانهم من مشاعر، أو عمَّا يجول في أذهانهم من أفكار ورؤى، والتعبير عنها بشكل دقيق، وطرح وجهة نظرهم ومواقفهم بطريقة واضحة وسليمة، فيربكون أفكارهم وتسلسلها، مما يعيق قدرتهم على إيصال الفكرة أو المعلومة لمحاوريهم بالشكل الصحيح والدقيق.
وأحياناً أخرى يفرض هؤلاء المغالين انطباعاتهم الخاصة على محاوريهم بلغو الكلام، أو بعلو الصوت والصراخ، معتقدين بأن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم، لإسكات من يحاورنه، وربما إيذائه. وقد تخرج لغتهم أثناء الحوار عن نطاق التهذيب اللغوي، ويجنحون إلى التصعيد، حيث يظهر حديثهم محملاً بمعاني عُنفية غير لائقة، وهو الأمر الذي يؤثر على البيئة الحوارية، ويهدم جسور التواصل بين المتحاورين، مما يؤدي إلى تحويل الحوار إلى نقاش صاخب يسوده التشنج والانفعال، تستنزف فيه الطاقة النفسية والعصبية للمتحاورين، حيث ترتفع الأصوات، ولغة التهديد والوعيد من غير ذي جدوى، وكأن الجميع دخلوا في حوار طرشان لا يسمع فيه كل طرف إلا صوته، وهو ما من شأنه إثارة الشحناء والبغضاء والضغينة والعداوة بين المتحاورين.
فضلاً عن ذلك هناك من يُظلم ويُبخس حقه في الكلام، والتعبير عن مكنونات نفسه، أو البوح بما في صدره، أو لا تُعطى له فرصة المشاركة في التحدث والكلام والحوار، حتى انطلاقاً من ثقافة السؤال الذي يقود إلى الوعي والمعرفة، نتيجة ما يمارس عليه من ترهيب وزجر، أو تعالي وعدم احترام، مع أن الواجب والضرورة تقتضي أن يكون له الحق في التعبير عن رأيه وخياراته بصراحة معلنة وبدون تخفي أو مواربة. إلا أن المشكلة في مثل هكذا أجواء قامعة، هي عندما يُحوِّل البعض ألسنتهم إلى أداة سليطة قامعة، وسلطة شرسة مهيمنة، تحتكر الكلام والحكي، وتبالغ في اللغو والثرثرة، وتفرض على غيرها الصمت والسكوت.
غير أن النهاية التي تنتهي إليها مثل هكذا حوارات تدل على ضعف تقاليد الحوار، وتراجع مستويات لغة التخاطب، والخلط بين حرية التعبير، وبين مناطحة أهل التخصص والعلم في تخصصاتهم بغير معرفة. إلا أن ما ينبغي على هؤلاء المتكبرين والمغالين في خصوماتهم فعله هو التواضع قليلاً، وكبح تماديهم في الخصومة، والجنوح إلى لغة التسامح والركون إلى الكلمة الطيبة، والإقرار بوجود الرأي الآخر والقبول به، سواء اتفقوا معه أو اختلفوا. فالاختلاف في الرأي، وفي الفكر، وفي الاعتقاد، لا يجب أن يفسد ما بين الناس من علاقات مودة وتعاون واحترام متبادل، وإفساد حالة التعايش بينهم، وتخريب عيشهم المشترك، وإنما على الجميع الابتعاد عن لغة المغالبة، وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة من دون كل الناس.