التنوير الافتراضي
لقد أتاحت التكنلوجيا، وانتشار الإنترنت، والمواقع الالكترونية، الفرصة للناس، على مختلف تنوعهم وانتماءاتهم، كي يتواصلوا، ويتعارفوا، ويتحاوروا، ويتبادوا الأفكار والآراء حول ما يهمهم من قضايا وموضوعات، والسعي للوصول إلى خلاصات ونقاط التقاء حولها بالحكمة، والقول الحسن، في جو حواري يسوده الاحترام والتقدير، بعيداً عن اللغة الخشنة والمتشنجة والعنصرية. إلا أن هذه الفرصة لم تتحقق بالشكل المأمول على صعيد الواقع، فما يدور من حوارات وتعليقات ومداخلات عادة ما يتخللها استعمال الألفاظ الغير لائقة، والخروج عن القيم، وآداب التخاطب.
وانطلاقاً من هذا المعنى يتحدث الكاتب فايز الشهري عن خلاصة تجربته الحوارية عبر برنامج تويتر، حيث تتصاعد حالات التشاحن، والتصنيف، والتحشيد، والتحريض، بقوله: «أنه لا يرد »بقسوة« على بعض من يتجاوزون لغة الحوار. فهو يفرّق في ردوده على مخالفيه بين ثلاث حالات، الأولى: أن يكون مخالفك قد بنى رأيه على معلومات غير صحيحة أو مشوّهة. وهنا عليك أن تسعى للتصويب دون تسفيه أو تشهير. والحالة الثانية حين يهاجمك أحدهم بهدف فرض، أو رفض فكرة، أو سلوك، متجاوزاً ضوابط دينك، وقيم مجتمعك، فالواجب هنا »المجادلة« »بالتي هي أحسن". وإن آذاك وشتمك مناصروه فلا تنفعل.
غير أن المستغرب، كما يقول الشهري، حين ترى عاقلاً سحبه الانفعال إلى الشتائم، وهو الذي وضع في «تعريفه لنفسه» أجمل عبارات مكارم الأخلاق. أما الحالة الثالثة فهي تأتي مع مخالف لا يريد سماعك ولا يرغب في إقناعك؛ بل يتعمّد ذمّك وتحقير آرائك واستهداف «شخصك». وأمام هذه الحالة الأخيرة لا مناص من أن «تحتسب» وتصبر وترد بالحسنى، موقناً أن الانضمام إلى «تويتر» لا يتطلب فحصاً عقلياً، أو تأهيلاً علميّاً، وقد يكون بين هؤلاء المتربّصين بك من يحمل ثارات السنين القديمة، أو غِيرة الأقران الأليمة". 1
وبغض النظر عن تجاوزات اللغة الحوارية التي تحدث عبر وسائل التواصل الإلكترونية، والضرر الناتج عنها، إلا أن الحالة التفاعلية في هذه الوسائط يمكن أن تلعب دوراً مهماً في نشر قيم التسامح والتعددية والتآخي والقبول بالرأي والرأي الآخر، وذلك حين يتم استغلالها بالشكل الحسن والإيجابي، من خلال التواصل والتفاعل الإيجابي والخلاق والمثمر بالآخرين، ومن دون الحاجة إلى التبشير بتلك القيم بالشكل المباشر والصارخ، وإنما بتمثّلها أثناء التواصل الحواري التفاعلي. إذ يمكن أن يكون لما يُكتب، أو يُقال، تأثيره في غربلة الأفكار ونفض البالي منها، وتحريك المياه الراكدة، وإثارة الحيوية في الأفكار الخلَّاقة. بيد أن الوقت هو الكفيل بزحزحة تلك القيم السلبية والبالية، وترسيخ القيم الإيجابية.
ولئن كان للإنترنت سلبياته وأضراره إلا أن ذلك ليس بشكل مطلق، إذ يمكن للمواقع الإلكترونية، ومنصات التواصل الاجتماعي، أن تكون وسيلة مفيدة في نشر القيم الصالحة، وأداة في تغيير الأفكار البالية. فالحرية التي تتيحها هذه الوسائط للجميع، سواء كانوا من الأخيار، أو من الأشرار، هي التحدي الحقيقي لأصحاب الأفكار الخلاقة كي يستخدموا التكنلوجيا ومنتجاتها بشكل واعي وناضج، وبطريقة تصب في صالح التغيير الإيجابي.
فإذا ما اعتقد أحد بأن ما يقوله، أو يكتبه عبر هذه الوسائط، هو عمل صالح ومفيد وتنويري، ويسهم في تحريك المياه الراكدة، وإثارة الحيوية في الأفكار الإيجابية، ويبدد حالة التخلف والتعصب والجهل، فإن عليه ألا يقلق من ردود الفعل الصاخبة والقاسية عليه، وأن يتحمل ما يأتيه من أذى. فالأفكار البالية لا تتغير بين ليلة وضحاها، بل تحتاج إلى زمن طويل كي تزول. لأن مشوار نهضة الشعوب يقاس بالأجيال والقرون، وليس بعمر فرد لا يتجاوز عمره ومضة في عمر البشرية.
وعليه فإن النخبة الواعية ليس كغيرها من عامة الناس. فلكونهم قدوات وأصحاب تراكم معرفي، ووعي ثقافي، مؤهلين ليكونوا تنويريين بين أبناء مجتمعاتهم، وقادرين على استيعاب المتغيرات المعرفية والتكنلوجية أكثر من غيرهم. وبالتالي فإن مسؤوليتهم تقتضي تمثُّل القيم الإيجابية وتجسيدها عملياً، ليس مع الناس الذين يعيشون معهم فقط، بل أيضاً مع الذين يتواصلون معهم افتراضياً، وأن يغضوا النظر عن التجاوزات والأخطاء والهفوات التي تصدر ضدهم بسعة صدر، وبعيداً عن الردود الفظة والقاسية والغاضبة.