النُّخبة وتحمُّل الأذى
ربما تكون تجربة التحاور، وإبداء الرأي، والمداخلات، والردود، والتعليقات، والتي تحدث على مواقع الإعلام الإلكتروني، أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مازالت في طور التبلور والنمو، وقد تتم بشكل فج وعنيف وصاخب، كون مجتمعاتنا لم تتعود على هذا النمط من الانفتاح والتحاور الحر، ولم تستوعب مفاهيم الاختلاف والتعدد وتتشربها. فأغلب الظن بأن هذا الصخب الحواري ربما يعبِّر عما يختزنه الناس في دواخلهم من مكبوت تعرض للانفجار، بفضل هذه الاختراعات الجديدة، والذي تصيب شظاياه الجميع بالأذى.
لذلك، واستكمالاً لموضع المقالة السابقة، فإن على النخبة أن تتحمل ما يأتيها من ردود قاسية، وأّذى كلامي، وفحش لغوي، وشتائم ولغة معادية، لا أن ينفجروا غضباً ويهددوا برد الصاع صاعين، وأن لا ينجروا عبر هذه الوسائط إلى ممارسة أدوار سلبية غير حميدة، بل عليهم أن يكونوا من أهل التسامح والصفح والعفو، وتجاهل الأذى الكلامي والصبر عليه، وألا يعطوا هذه الردود أكثر مما تستحق من اعتبار، وعليهم الالتزام بالقيم الرفيعة في ردودهم، وردود أفعالهم، كي يكونوا القدوة والمثال في الالتزام بالأخلاق الفاضلة والحميدة.
إذ كم هو متناقض مع نفسه ذاك الذي يدعو الناس ليل نهار إلى الالتزام بالأخلاق الحميدة، بينما أخلاقه لا تدل عليه، ولا يلتزم بالأخلاق والقيم العالية الرفيعة في سلوكه، وممارساته، وأقواله، وردود فعله. فهو إذ يقول الشيء يفعل ضده، وممارساته تتناقض مع أقواله، ضارباً عرض الحائط بكل المثل والقيم الحميدة.
وليس من المعقول أيضاً أن يدَّعي أحد بأنه يعمل على إصلاح مجتمعه وتنويره، وهو لا يتعفف عن استخدام الألفاظ النابية تجاه من يريد إصلاحهم وتنويرهم وكأنهم أعدائه وخصومه، فيما يفترض أن يكون خصمه الحقيقي هو الجهل والتخلف والعصبية والظلامية وكل ما يسيء إلى الإنسان وكرامته.
إنه لأمر غير أخلاقي أن ينساق البعض إلى ردود فعل عصبية وطائشة حينما يتعرضون لأذى كلامي جارح، ويغلِّبون عواطفهم وميولهم الفئوية بعيداً عن التعامل الحكيم والموضوعي في مثل هذه المواقف، فتخرجهم انفعالاتهم عن أطوارهم، فيما الحكمة تقتضي التروي وسعة الصدر، خصوصاً مع ما تمر به مجتمعاتنا من أزمات وتحديات كبرى، يفترض بأن يكونوا القدوات في أقوالهم وممارساتهم، لا أن يتسببوا في توتير الأوضاع وتأزيمها.
حين يتعرض هؤلاء إلى التجريح فإن عليهم أن يكونوا أوسع الناس صدوراً، وأن يتحلوا بالصبر، ويتمثلوا القيم الأخلاقية والإنسانية، وتحمل ما يصدر ضدهم من إشاعات واتهامات وأقاويل، سواء كانت بشكل مباشر، أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وأن يتجاهلوا الأذى الكلامي، والعبارات النابية والمهينة التي تطلق ضدهم، وألا يستنفدوا طاقاتهم في مهاترات وجدالات لا طائلة منها، ولن تعود عليهم بالفائدة، وإنما ستؤدي إلى تعطيل أهدافهم الدعوية أو التنويرية، بل عليهم أن يكونوا الصدور الحنونة التي تمتص حالات الغضب والانفعال، بدل اتهام عموم الناس بالتخلف والجهل والبدائية.
كم هو مأمول تحوُّل ما يدور من حوارات، ومداخلات، وردود، وتعليقات، والتي تحدث كما سبقت الإشارة على مواقع الإعلام الإلكتروني، أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إلى جدالات وسجالات مبنية على الاحترام المتبادل، حتى وإن لم تخلو من الحدة والخلاف، والذي يمكن أن يصاحب مثل هذه الحوارات. غير أن المهم في الأخير أن تكون حصيلتها التراكمية منتج ثقافي ومعرفي وفكري ونقدي يُثري حياتنا العلمية والثقافية، ويساعد على تطوير المعارف والعلوم والمفاهيم والوعي، ويهيئ الأرضية المناسبة لنهوض مجتمعاتنا وتقدمها.