حين تُعرِّي شبكات التواصل الاجتماعي أخلاق الناس ومعادنهم
حين تتحول الحوارات المتشنجة إلى حلبات مصارعة يسودها التشاتم والتشاجر بين المتحاورين، وربما تبادل العنف الجسدي، حينها تبتعد هذه الحوارات كل البعد عن منطق الحوار. فبدل التشارك في حوارات معرفية تؤسس لمجتمع المعرفة، الذي تتوفر فيه الأرضية الصالحة لنمو الأفكار، ينجر المتحاورون إلى خلق بيئة عقيمة لا تنتج الأفكار وتُنمِّيها، بل تخلق بيئة تخنق الأفكار وتئدها.
وفي مثل هكذا حوارات لا ينشغل أصحابها بفهم ما يقوله الطرف الآخر، والتفكير فيه، بقدر ما ينشغل كل طرف بطريقة الرد على خصمه وإفحامه وهزيمته. فهنا ليس للحجة والمنطق والدليل والبرهان أي مساحة، أو أي قيمة تذكر، بل هي في الغالب الأعم حوارات مغالبة، لا تنتهي إلا بمنتصر، وآخر مهزوم.
وعليه فإن التشاتم والتشاجر لن يحل المشكلات، ولن يغيّر من الواقع شيئاً، أو يُوصل إلى حلول ممكنة، بل يزيد الأمور تعقيداً وسوءاً. فيما الخيار الصحيح هو الجلوس معاً في بيئة حوارية ملائمة، والتحاور بطريقة موضوعية، بقصد معالجة كل القضايا المختلف حولها، فحالة التنوع التي تعيشها المجتمعات تجعل من الصعب على أي أحد احتكار الرأي، والادعاء بامتلاك الحقيقة دون سواه، ومن ثم تهميش الآخر وعزله.
وإذا كان البعض يدَّعي بأن هدفه من الحوار والجدل مع الآخرين هو النقد والتقييم، ومعرفة الحق والحقيقة، أو إقامة الحجة على المخالف، إلا أن الحقيقة هي غير ذلك تماماً. فالطريقة التي تُدار بها الحوارات لا تنم عن أخلاقيات تعطي لهذا الكلام مصداقيته. فما يحدث من شتم وسب وقذف، واستخدام للألفاظ النابية، والمستفزة، والغير مناسبة، والخارجة عن الذوق العام، لهو دليل على انتفاء الشرط الأخلاقي في التواصل والحوار.
ولعل خير شاهد على ما نقول هو ما تشهد مواقع التواصل الاجتماعي من تراشق بالكلمات العنيفة والقبيحة والخشنة والجارحة، ليس فقط بين عامة الناس، بل بين من يصنفون بأنهم من أهل النخبة. فتراهم يتبادلون التهم، والانتقاص من بعضهم البعض، والإيغال في تحقير الآخرين، لدرجة تصل إلى قلة الأدب، وبشكل مبتذل، في حروب يومية لا تنتهي، وكأن المسألة تباري بينهم على تصفية حسابات شخصية.
وفي هذا السياق ينتقد محمد العباس ما يحدث من تشاتم على وسائط التواصل الاجتماعي، لافتاً إلى أنه حين: "يتلاسن المغردون في تويتر، فإنهم بقدر ما يعكسون وعيهم ومزاجهم الفردي، هم أيضاً يمثلون تيارات ثقافية اجتماعية سياسية صارت حقيقة في المشهد الحياتي. وهذا أمر طبيعي في أي مجتمع، بالنظر إلى اختلاف التوجهات، وتباين وجهات النظر وتضارب الأجندات. إلا أن المقلق في هذا الشأن هو ارتفاع نبرة التجابه، واحتشاد خطابات المتجابهين بالفاحش والعنفي من الألفاظ، إذ تم تحطيم حاجز التهميش والإقصاء باتجاه حالة من الاشتباك التي يصعب توقع ما يمكن أن تؤول إليه. إذ لم يعد الأمر مجرد اختلاف فكري حول ما ينبغي أن يكون عليه شكل الوطن، بل وصل الأمر إلى حالة حرجة من الخصومات والعداءات المعلنة، التي تتغذى على الكراهيات في حفلة جنون تويترية باسم الوطن.
ويضيف العباس بأن للحوار أخلاقيات إلى جانب المبادئ الفكرية، وما يحدث في تويتر لا يمت للحوار بصلة، فهو نوع من أنواع الحرب، لكنه يتم بأيد نظيفة، أي من خلال اللغة، التي وإن بدت عنيفة ومشبعة بالألفاظ الشتائمية الفاحشة، إلا أنها أقل وطأة وخراباً من الحرب الميدانية، وإن كان كل ذلك التجابه اللفظي يعمل بمثابة شرارة لحرائق اجتماعية لا تحمد عقباها. إذ لا يحدث التلاعن اليوم في تويتر بين التيارات المحافظة والحداثية فقط، بل بين أطياف مختلف التيارات من داخلها". 1
ولئن كانت ألفاظ السباب والشتائم أمر لا يليق أن يصدر من عامة الناس، فكيف به يصدر من أهل النخبة من العلماء والدعاة والمفكرين والمثقفين في حق بعضهم البعض، وفي حق المختلفين معهم، أياً كانت موضوعات الخلاف والاختلاف، ومهما كانت تنوعات انتماء هؤلاء المذهبية والدينية، فالعبرة حين يدخلون في جدال، سواء كان هذا الجدال دينياً، أو سياسياً، أو ثقافياً، أو اجتماعياً، هي بمقارعة الحجة بالحجة، وتوضيح مواطن الخلل والخطأ، والدفع بالتي هي أحس، ومجادلة الفكر بالفكر، والنظرية بالنظرية، بعيداً عن أي ألفاظ نابية، ومستفزة، ومثيرة، وغير مناسبة، وخارجة عن الذوق العام، كون هذه الألفاظ مرفوضة، وتسيء إليهم أولاً، وتضعف تماسك مجتمعاتهم، وتثير الفتنة بين الناس.
كان الأجدر بأهل النخبة أن تكون قلوبهم مفتوحة على بعضهم البعض، وأيديهم ممدودة للتلاقي والتصافح، وأن يجدوا السبل للانفتاح على اللغة الحوارية بدلاً من لغة الاتهامات، وتقاذف الشتائم، وإتهام بعضهم البعض بالسيء من القول. وإذا كان هؤلاء حين يفكرون أو يتكلمون ليسوا معصومين من الخطأ، إذ أن الجميع يخطئ، غير أن الشرط الأخلاقي في الحوار يلزم عدم الحكم على أحد من بعيد، أو من دون معرفة، وإنما من خلال الاقتراب منه، والتعرف عليه وعلى أفكاره ورؤاه، ومناقشته فيما يفكر فيه، كي يعرف كل منهم ما يفكر فيه الآخر، وتكون معرفته به عن تواصل وقرب.
إذا كان البعض قد آثر قبل انتشار مواقع التواصل الاجتماعي العيش في أبراج عاجية، والانعزال عن الناس، وتمييز أنفسهم بالفضائل وسط المجتمع الذي يعيشون فيه، غير أن التقنية المعلوماتية الجديدة اليوم قد أزاحت الغطاء، وساعدت في إظهار مستويات أخلاق الناس ومعادنهم وما يحملونه من قيم. فمن كان بالأمس يدعي الفضيلة، يمكن أن تفضحه اليوم سلوكياته السلبية على وسائط التواصل، وتكشفه أمام الجمهور وتعريه، وذلك حين يسيء استخدامها، ويجعل منها منصة لتقاذف الشتائم، أو وسيلة لتصفية الحسابات.