السُباب على مواقع التواصل
كم هي النصوص والتعاليم الدينية التي تحث على الالتزام بمكارم الأخلاق، وتهذيب النّفس، وتعويدها على التحلي بالأخلاق الفاضلة والحسنة، إلى أن تُصبح من طبيعة النّفس، وجزءاً من سجاياها الطيبة. فحين تصدر من الإنسان أقوال وأفعال محمودة في تعامله مع الناس سيقال عنه أنه صاحب أخلاق حسنة، أمّا إذا كانت أفعاله وأقواله منبوذةً وممقوتة سيقال عنه أنه صاحب أخلاق سيئة. فالتّعامل بالخُلق الحسن سببٌ لنشر المحبة والمودّة بين النّاس، ودفع للعداوة والبغضاء، والقضاء على الضغينة والكراهيّة.
وعلى الخط نفسه نهت النصوص والتعاليم الدينية عن التخلق بالأخلاق السيئة، ونهت عن الفُحش في القول، أو التنابز بالألقاب والسُباب، وإهانة الآخرين بالقول الجارح، والابتعاد عن الفظاظة والشدة في التعامل مع الناس. كما دعت إلى صون اللسان والجوارح عن البذاءة. فالسان وسيلة الإنسان في التواصل مع الآخرين، فمن خلاله يُعبِّر، ليس فقط عن مشاعره وعواطفه وأحاسيسه، بل عن أفكاره ورؤاه، خصوصاً حين يلتقي بالناس ويتحاور معهم ويتجادل، أو حين يدعوهم إلى قناعاته وأفكاره.
وإذا كان اللسان وسيلة للتواصل والتعارف والانفتاح على الآخرين، فإنه في ذات الوقت يمكن أن يكون وسيلة قطيعة وتخاصم وتباعد، وذلك حين يزل اللسان، وتخرج من صاحبه في لحظة انفعال، أو غضب، كلمة قاسية، أو عبارة جارحة، يمكن أن تُفسد علاقته بمن حوله، وتُؤدّي إلى عواقب مضرة وغير محمودة.
لذا ينبغي على الإنسان حين التحدث أن يدرك أهمية حفظ لسانه، وأن يحرص على التفكير في الكلمة قبل أن ينطق بها، وأن يُحسن صياغة جُمله ومفرداته، وأن يُعبر عن آرائه بطريقة متزنة وحكيمة، ويختار الكلمات المناسبة التي تحمل دلالات طيبة وحسنة، وليست تلك الكلمات التي تحمل في طياتها إيحاءات سلبية، وتكون نتائجها مُضُرّة.
وانطلاقاً من هذه الخلفية العامة، فإن الكلمة المنطوقة، أو المكتوبة، عبر وسائط التواصل الاجتماعي، هي سلاح ذي حدين، إذ يمكن أن تكون وسيلة تواصل وتعارف، كما يمكن أن تكون وسيلة قطيعه وتنافر، من خلال ما تحمله الكلمة من دلالات إيجابية، أو سلبية، وبناءاً على الطريقة والأسلوب الذي يتم به استخدامها عبر وسائط التواصل الاجتماعي، حيث بات واضحاً ما لهذه الوسائل من تأثير واسع النطاق، وقدرات مهولة في سرعة نشر وتعميم ما يُكتب، أو يُقال، وكأنه انتشار النار في الهشيم.
لذلك فإن الاستخدام السيئ والغير منضبط لمواقع التواصل، من خلال نشر الإشاعات والفضائح، والتنابز بالألقاب، وتبادل السُباب والشتائم بين مستخدمي هذه المواقع، يمكن أن يجُر إلى الخروج عن تعاليم الدين وأخلاقياته. فحين تنتهك الضوابط يتطوّر ما يدور من نقاشات وجدل من حوار مستحسن إلى عداوة وبغضاء، ويتحول الاختلاف البسيط إلى توتّر ونزاع وعنف، تُقفل بسببه العقول، وتتنافر القلوب.
وهذا الأمر يقودنا لدعوة رواد مواقع التواصل الاجتماعي إلى الالتزام بالضوابط الأخلاقية عند فتح أبواب الحوار، والتحلي بالأخلاق الفاضلة عند النقاش، وعدم الانسياق خلف المواضيع التي يتم طرحها بقصد إثارة النفوس، وتأزيم الناس، وخلق المشكلات والخلافات. بل مسؤولية هؤلاء تقتضي الالتزام بالمعايير والضوابط المستمدة من منظومة القيم والقواعد الدينية والأخلاقية، والتي تتحرك في خط الاستقامة والورع والتقوى والصدق والعدالة، والتي تحفظ صلاح المجتمع، واستقامة أبنائه، كي يبقى مجتمعاً متماسكاً وقوياً، وقادراً على مناقشة مشكلاته وقضاياه بموضوعية وعقلانية.
وحسبنا هنا أن التأكيد على أن الالتزام بالقول الحسن والنزيه ليس أمراً قابلاً للتغير حسب تغير ظروف الزمان والمكان، بل هو أمر يجب الالتزام به في كل الأحوال، سواء كان ذلك في الواقع الحي والمعاش، أو عبر الواقع الافتراضي، وفي سائر المواقف، ومهما كانت الصعاب والاستفزازات. فالقيم والأخلاق هي أمور ثابتة لا تتغير، سواء في الشدة أو في الرخاء، في الرضا أو عند الغضب، إذ أن على الإنسان الملتزم ألا يخرج عن الضوابط الأخلاقية في أقواله وأفعاله، وأن يتجنب الكلام الانفعالي، ويحرص على تهذيب لسانه، وتحسين ألفاظه، وتعديل خطابه للآخرين، ويتجنب استخدام الألفاظ القبيحة، والكلمات البذيئة، والألقاب السيئة.
كم هو فضيع ومستنكر ما يحدث عبر مواقع التواصل الاجتماعي من تنابز بالألقاب، وسخرية من الآخرين، وتبادل للسُباب والاتهامات، وبطريقة انفعالية وطائشة ومنفلتة. إذ أن هذه الممارسات الخاطئة يرفضها العقل والدين والقيم والأخلاق، فكافة أشكال وألوان السب والشتم والفُحش تعد خارجة عن تعاليم الدين ومنهجه. فالدين يحث على تهذيب الأخلاق والسلوك، وتنقية المشاعر، ونشر المحبة والمودة بين الناس. إلا أن السُباب الذي يحدث عبر مواقع التواصل أمر يتنافى مع التعاليم الدينية، وآفة خطيرة تولد الضغائن والأحقاد والعداوة حتى بين أفراد المجتمع الواحد.
وإذا كان ولابد من المشاركة في الحوارات التي تدور عبر هذه المواقع، فليكن ذلك بالتي هي أحسن، والالتزام بالحوار الهادئ، والنقاش الهادف، والنقد الموضوعي البناء، البعيد عن التجريح والسُباب والتنابز بالألفاظ البذيئة، والكلمات النابية، والتي لا خير فيها، وتترك آثاراً سيئة في النفوس، وتدخل الجميع في منزلقات أخلاقية.
أما إذا كان من الصعب على المتحاورين التحاور بموضوعية واتزان، والتحدث بالكلمات اللينة والطيبة، والتي تدعو إلى الحوار والوئام والتعاون على البر والتقوى، وإلا فإن عليهم الصمت والكف عن الكلام، وقطع هذا الحوار، وتجنبه بالحسنى، لأن ذلك خير وأفضل وأنفع للجميع.