أوقفوا قرار الاعتزال
القرار الأخير الذي اتخذه سماحة الشيخ محمد العبيدان باعتزال منبر الخطابة الحسينية كان مفاجئا للجميع حتى المقربين منه والمحبين له والمتابعين لخطاباته، خصوصا أنه جاء في ذروة موسم عاشوراء الذي هو موسم مواسم المنبر. فما الذي جعل خطيبا في مثل وزنه الحوزوي العلمي الثقيل، وحضوره الاجتماعي الفاعل، وخطابه المنبري المثقف الرصين يتخذ قرارا مصيريا كهذا؟!
لقد ذكر الشيخ سببين لإقدامه على هذه الخطوة المفاجئة؛ تمثل الأول في شعوره بعدم وجود جديد لديه يقدمه لجمهوره، وأما الثاني فكان ما لقيه من معاملة غير لائقة وألفاظ محرجة ومؤذية من بعض من هم دون أبنائه سنًا بحسب تعبيره، في إشارة منه كما فهمتُ إلى قلة حظهم من العلم والأدب.
هذان السببان قد لا يبدوان مقنعَين للكثيرين لعدة أمور؛ فالشيخ من جهة معروف بمواكبته المستمرة للمستجدات في الساحة الثقافية ذات الصلة بتخصصه في العلوم الدينية، وهو يحاول جاهدا أن يكون ذا منبر متميز في أطروحاته، متنوعٍ فيما يقدمه على أكثر من صعيد. والمتابع لموقعه الإلكتروني ولنتاجه الثري يدرك هذه الحقيقة تماما. ومن جهة أخرى يحرص الشيخ على الاستماع للرأي الآخر ويشجع الآخرين على نقد محاضراته، بل ويقيم حفل تكريم لمنتقديه كما فعل العام الماضي قبل عدة أشهر.
كما أنه من جهة ثالثة يعلم قبل غيره أن سلوك المستهزئين لا ينبغي أبدا أن يفت في عضد أمثاله من الساعين إلى الإصلاح، إذ لهم في مَن اصطفاهم الله لرسالته خير قدوة وأسوة، حين تعرضوا للاستهزاء والتكذيب والاتهامات الباطلة «يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» فما كان منهم إلا الثبات والاستمرار في الطريق حتى النهاية «فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا».
إنني على قناعة تامة أن قرار الشيخ لم تغب عنه هذه الأمور، ولكنه كان نفثة مصدور موجوع من الحالة المتردية التي وصلت إليها بعض المنابر في فقر عطائها الذي لا يليق بمنبر ينتسب للحسين ، ومع ذلك تكون لبضاعتها المزجاة سوق بين الناس، فكان القرار صرخة احتجاج لإيقاظ الغافلين قبل فوات الأوان واستفحال الخطب واتساع الخرق على الراقع. هذا هو في نظري السبب الرئيس لقرار الانسحاب.
من هنا فإن المسؤولية تقع أولا على النخب الاجتماعية في المساهمة الفاعلة لوقف قرار اعتزال الشيخ، من خلال التواصل معه ودعمه وإقناعه بضرورة التراجع عن هذا القرار، إذ ليس من الصحيح أن يكون مجتمعنا طاردا للكفاءات أو غير مكترث بانسحابها من الساحة. كما تقع ثانيا على المجتمع كله في احتضان تلك الكفاءات وتقديرها وإنزالها منازلها التي تستحقها تطبيقا لقوله تعالى: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ». وتقع المسؤولية ثالثا على الشيخ نفسه في عدم إخلاء الساحة لغير ذوي الكفاءات، وفي ممارسة دوره المأمول في صناعة منبريين يحافظون على مقام المنبر وألقه وتجدده وعطائه الذي لا ينضب.