الغضب وعواقبه
كم هي التعاليم الدينية التي تحث على المحبة، والصفح، والتسامح، وحسن التعامل، وفعل الخير بجميع صورة، ليس فقط في الفروض والعبادات والواجبات، ولكن أيضاً في السلوك، والممارسات، والعلاقات الإنسانية، والدعوة إلى معاملة الناس بالتي هي أحسن، كبشر، وكإخوة في الدين، أو في الإنسانية، والابتعاد عن السلوكيات السلبية، كما هو الغضب المذموم، والذي هو من السلوكيات السلبية الشائعة في مجتمعاتنا، إذ يمكن لأشياء بسيطة أن تستفزنا، وتُثير مشاعر الغضب في نفوسنا. فالتحمل وضبط النفس أصبحت من السمات النادرة في هذه الأيام المليئة بالمنغصات ومصادر التوتر، حيث تقودنا مشاعر الغضب إلى فعل أشياء غير معقولة، والإقدام على تصرفات وسلوكيات بلهاء طائشة متهورة نندم على فعلها، ولا يكون بالإمكان بعدها تدارك نتائجها وتداعياتها.
فكم هم هؤلاء الذين تحت تأثير مشاعر الغضب البغيضة، ارتكبوا الحماقات، وأدت بهم إلى ارتكاب الجرائم، وانتهى بهم الأمر إلى غياهب السجون، أو تحت حد المقصلة، حيث لا ينفع حينها الندم؟
إن حالات الغضب العارمة، والوقوع تحت تأثيرها، يمكن ملاحظتها يومياً، وفي كل مكان. إذ يمكن أن تبدأ لأسباب تافهة، وتنتقل إلى رفع الأصوات والصراخ في وجه بعض، وتبادل الشتائم، والتنابز بالألقاب، حتى تصل إلى حد التشابك بالأيدي، وقد تتطور الأمور بعدها إلى ما لا يحمد عقباه. فها نحن نرى مثل هذه الحالات في تعاملات الناس مع بعضهم البعض، في الشارع، وأثناء قيادة السيارة، وفي البيت والعمل، وفي الملاعب الرياضية، وأثناء لعب المباريات، وفي بعض البرامج التلفزيونية، وكذلك حين يخرج النقاش عن سياقه الطبيعي في ديوانيات الأصحاب والأصدقاء، أو على صفحات وسائط التواصل الاجتماعي، حيث يتم تضخيم الأمور بشكل غير مبرر، ومن دون السعي إلى ضبطها قبل أن تستفحل، حيث تنعدم لغة الحوار، ويسود الجدل العقيم، ولغة الشتائم المتبادلة.
إن مشاعر الغضب السلبية التي تسكن قلب أي الإنسان، وتعتمل في داخل نفسه، تجعله يشعر بالحنق والعدوانية تجاه الآخرين، وبالرغبة في الانتقام منهم، وهو الأمر الذي قد يفقده الكثير من العقل والحكمة، وتجعله يتخبّط في كثير من السلوكيات الخاطئة، وربما تقوده مشاعر الغضب العارمة إلى ارتكاب حماقات غير محمودة العواقب. غير أنه إذا ما أحس بضعف حيلته على الانتقام، وعدم استطاعته على فعل ما يُريد، وجه مشاعر الغضب الكامنة فيه تجاه نفسه، أو تجاه مَن حوله مِن الضعفاء.
عندما تجتاح نوبة الغضب هؤلاء تراهم يفقدون عقولهم ويتصرفون بطيش ومن دون حكمة، ويتخبطون في أقاويلهم وسلوكياتهم، وترتفع لديهم مشاعر العدوانية، والرغبة في الانتقام والثأر، ويصبح همهم الأساس هو كيفية الانتقام ممن يعتقدون أنهم أساؤوا لهم، وعرّضوا كراماتهم للإهانة، ومن دون أي اعتبار للقيم الدينية والإنسانية التي تدعو إلى الصفح والعفو والمغفرة والتسامح.
فالبعض ممن يدَعون الالتزام بالقيم الأخلاقية أو الدينية تنفلت منهم أعصابهم مع أبسط الصغائر، فتراهم يثورون ويغضبون بطريقة تخرجهم عن أطوارهم المعتادة، حتى مع أقل استفزاز يتعرضون له، وتقودهم مشاعرهم السلبية إلى ارتكاب الحماقات، على الرغم من معرفتهم بأن ذلك قد يعرّضهم للمشاكل أو للعقاب، لكنهم لا يأبهون لهذا الأمر، فيدمرون حياتهم بأيديهم نتيجة الرغبة الجامحة في الثأر والانتقام.
وإذا كان هناك ممن تقيده القيم الأخلاقية والالتزامات الدينية عن ارتكاب الحماقات، ويتعامل مع المواقف الاستفزازية ببرودة أعصاب، فيؤثرون الصفح والعفو والمغفرة والتسامح على الانتقام، فإن هناك آخرون لا تؤثر فيهم هذه القيم أو تضبط سلوكياتهم، ويتعاملون مع المواقف الاستفزازية بانفعال، ومن دون روية أو تريث، وبطريقة ردَّات الفعل المتشنجة، بل تظل هذه الحوادث والوقائع التي تعرضوا فيها للإهانة، أو الإساءة، أو الأذية، باقية تعشعش في ذاكرتهم، بل تظل باقية كامنة داخل نفوسهم مع مرور الزمن ومن دون قدرة على كبت مشاعر الغضب والحنق التي تعتريهم، أو نسيان ما تعرضوا له من إساءات، فشعورهم بالأذى ينمي فيهم مشاعر الكره تجاه من آذاهم، فهم دائماً ما يتحينون الفرصة التي يأخذون فيها بالثأر لأنفسهم.
غير أن هناك آخرون ممن يتعرضون للإهانة والإساءة والأذية، ويشعرون في داخلهم بغاية الانزعاج والألم والمرارة، غير أنهم مع قدرتهم على الرد والثأر لكرامتهم المجروحة يكتمون غيضهم وانفعالاتهم، ويتعاملون مع المواقف الاستفزازية ببرودة أعصاب، ويؤثرون تجاوز ما تعرضوا له من أذى التزاماً بدين يتبعونه، أو بقيم يلتزمون بها، أو حفاظاً على علاقاتهم الاجتماعية والأسرية والعائلية، وحفاظاً على صداقاتهم الشخصية والإنسانية مع من حولهم، وذلك خوفاً من تعرضها للشرخ والتمزق والتفتت والانهيار. فهم إذ يضبطون أنفسهم، ويتحكمون في ردود أفعالهم، ويغضون النظر عمن أساء إليهم، وينسون ما حدث من أمر، أو يتناسونه، لا تسيطر على نفوسهم عقدة الانتقام، بل هم دائماً ما يأخذون بالعفو والغفران والصفح.