القرآن والتعددية الدينية «1»
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ».
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ».
هاتان الآيتان اتخذهما البعض من دعاة التعددية الدينية مؤيدا قرآنيا لمشروعية جميع الأديان المذكورة، وأن أي واحد منها يمكن التعبد به ويؤدي إلى المطلوب. بل ذهب البعض لأبعد من ذلك لتعميم الفكرة على كافة الأديان والمذاهب.
ولستُ هنا بصدد مناقشة التعددية الدينية ومعانيها المتفاوتة، وكيف نظّر لها الفيلسوف الديني الإنجليزي جون هيك «1922 - 2012»، والظروف التي ساهمت في إنتاج ذلك المفهوم في أوروبا. فهذا أمر يحتاج لمقالات عدة خارج «دقيقة تأمل» القرآنية أرجو أن أوفق لطرحها إن شاء الله.
ما أردت التركيز عليه هنا هو التالي:
أولا: يحلو للبعض البحث والتفتيش عن آيات قرآنية يمكن أن يعتبرها مؤيدة لفكرة استساغها ذهنه وركنت إليها نفسه. فهو يمارس عمله من خلال مسبقات ذهنية يحاول جاهدا أن يجد لها ما يعضدها، غير ملتفت لما قد يظهر له من معارض لها. إذ كل همّه حشد المؤيدات، وفي ذلك ما فيه من خلل منهجي ينأى بصاحبه عن الوصول لنتيجة معرفية ذات أساس متين.
ثانيا: لا بد من فهم السياقات المعرفية والاجتماعية والثقافية التي تُولد فيها أي فكرة من الأفكار، إذ بدون هذا سيكون فهمنا للفكرة ذاتها قاصرا، ولا يتكئ على ركن ركين.
ثالثا: ما يهمنا في هذا المقال هو الإجابة على السؤال التالي:
هل يمكن الاستدلال بالآيتين المذكورتين على ما استفاده بعض مناصري التعددية الدينية؟
إن التدبر في الآيتين يهدي لغير ما ذهب إليه أولئك، وهو ما تؤيده التفاسير الكثيرة لدى الفريقين. فهذا صاحب تفسير الميزان يرى أن محصل المعنى في تفسير الآية الأولى « أن الأسماء والتسمي بها مثل المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين لا يوجب عند الله تعالى أجرا ولا أمنا من العذاب كقولهم: لا يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، وإنما ملاك الأمر وسبب الكرامة والسعادة حقيقة الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، ولذلك لم يقل من آمن منهم». فالآية، في رأيه، ليست ناظرة لإعطاء المشروعية والحقانية لتلك الديانات المذكورة. وهذا ما أوضحه الشيخ السبحاني في جواب له على سؤال شبيه بسؤالنا السابق، إذ يقول: وحينئذ لا يمكن القول: إنّ الآية بصدد إعطاء قاعدة عامّة ومصالحة كلّية بأنّ جميع أتباع المذاهب والديانات هم من الفائزين يوم القيامة، وذلك لأنّ الآية المبحوث عنها ليست في مقام بيان هذه الفكرة وتوضيح هذه النظرية، بل الآية ناظرة إلى نفي الأفكار الباطلة والنظرية الأنانية التي تقصر النجاة على اليهود والنصارى فقط، لا إثبات أنّ اتّباع أي دين سبب للنجاة والفلاح والخلود وأنّ اتّباع رسالات جميع الأنبياء تكون سبباً للخلاص والنجاة يوم القيامة، ولذلك لابدّ ولدراسة هذه النظرية نفياً أو إثباتاً من الرجوع إلى الآيات الأُخرى.
ثم يضيف الشيخ: ونحن حينما ندرس الآيات الأُخرى التي تتعلّق برسالة النبي الأكرم نجدها تعلّق هداية ونجاة أهل الكتاب على شرط واضح، وهو أنّ هذه الهداية والنجاة مشروطان باعتناق الدين الإسلامي والعمل وفق شريعة الرسول الأكرم ، حيث يقول سبحانه في هذا المجال: «فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا».
أما الرازي في تفسيره الكبير، فيقول في معنى «مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ»: «واعلم أنه قد دخل في الإيمان باللّه الإيمان بما أوجبه، أعني الإيمان برسله ودخل في الإيمان باليوم الآخر جميع أحكام الآخرة، فهذان القولان قد جمعا كل ما يتصل بالأديان في حال التكليف وفي حال الآخرة من ثواب وعقاب».
ولعل من الآيات التي ينبغي أن يُتأمل فيها في هذا الصدد قوله تعالى: «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ».
وللحديث بقية.