أثر القدوة في حياة الأبناء
لا شك بأن عملية توجيه الأبناء والناشئة وتثقيفهم بالقيم الدينية والأخلاقية، من خلال التربية الأسرية والوالدية، أو من خلال المؤسسات التربوية والتعليمية والدينية والثقافية والإعلامية، وتقديم الندوات والمحاضرات والدورات والبرامج التي تستهدف نشر القيم الإيجابية، والحث على الالتزام بمكارم الأخلاق وتنميها، وتُعلّم الناشئة آداب السلوك والتصرف، وتزرع في نفوسهم الوازع الديني، يمكن أن تساهم في رفع الوعي بمعاني القيم ودلالاتها، وتهيئ لهم الأرضية اللازمة لتجسيدها عملياً في السلوك والممارسات على أرض الواقع.
إلا أن السؤال الذي يُطرح في هذا المجال هو عن أثر القدوة في تنشئة الأبناء على القيم الإيجابية ومكارم الأخلاق، وتكوين شخصياتهم، وتزويدهم بالعادات السلوكية الحسنة، وبناء مهاراتهم الحياتية، وبالتالي انعكاس ذلك على حياتهم الواقعية في البيت والمدرسة والشارع وعند خوض غمار الحياة في المستقبل، خصوصاً في ظل عالم مليء بالتحديات والتناقضات على المستوى القيمي والأخلاقي؟
إن وجود الشخصية الإيجابية التي تمثل الأسوة والقدوة الحسنة أمر مهم في حياة الأبناء، خصوصاً لدى الصغار والناشئة. فأقوال القدوة وأفعالها دائماً ما تُتخذ نموذجاً يحتدا بها، بل ويُتبع طريقها ونهجها، ويقتفى أثرها وخطاها في كل ما تتميز به من أخلاقيات، وهو الأمر الذي له أثرُهه القوي في تكوين شخصية الأطفال والناشئة.
وغني عن القول بأن القدوة الحسنة، صاحب الشخصية السوية، والأخلاق الحسنة، والذي يمتلك الصفات الإنسانية الحميدة، والبعيد عن مواطن الفساد والشبهة، يمكنه التأثير فيمن حوله أخلاقياً وثقافياً وعاطفياً، ويسهم في تشكيل رؤية المقتدين به، وفي تحديد رسالتهم، وأهدافهم في الحياة.
وعليه فإن القدوة الحسنة تعتبر من أهم وسائل التربية، وخصوصاً عند الأطفال الذين بفطرتهم الغريزية يندفعون نحو تقليد ومحاكاة الكبار، فهم أكثر تأثراً بالقدوة، ويعتقدون أن كل ما يفعله الكبار صحيح، وينظرون إلى آباءهم كشخصيات كاملة وفاضلة يقلدونها ويقتدون بها.
إن الأطفال الصغار في سنيهم المبكرة يراقبون ويهتمون بطبيعتهم وبشكل فطري ما يفعله الآباء، فيندفعون إلى تقليده ومحاكاته والاقتداء به، "ولكن ما تشير إليه نتائج الدراسات الطبية أن أطفالنا يتعلمون منا ويُقلدوننا في أشياء قد لا تخطر على البال، وأنهم يتعلمون منا تلك الأشياء في أوقات مبكرة جداً من أعمارهم، وهو ما يُنبهنا، كآباء وأمهات، إلى ضرورة الاهتمام بما نفعله أمامهم، أو بما يصدر عنا من تصرفات أو سلوكيات، وهو ما يُعطي لنا الفرصة لغرس الكثير من الخصال الحميدة فيهم وهم في سن مبكرة جداً.
وعلى سبيل المثال، فإن خصال «المثابرة» و«التصميم» ليست بالضرورة خصالاً متأصلة، وليست كذلك خصالاً تُكتسب بالتوجيه الكلامي إليهم والحديث معهم عنها، بل هي صفات يكتسبها الطفل في مراحل مبكرة جداً من عمره نتيجة رؤيته والديه يُمارسانها.
ويشير الباحثون إلى «إننا كثيراً ما نظن أن الإصرار والمثابرة والثبات هي مميزات أو سمات أصيلة وملازمة لنا، ولكننا نعتقد أن الأمر أكبر من ذلك، ذلك أننا يُمكن أن نتعلم ونُعدّل في إجراءاتنا وجهودنا على أساس السياق الاجتماعي»، في إشارة من هؤلاء الباحثين إلى أن الطفل اكتسب إرادة المثابرة في إنجاز المهمة التي يود القيام بها بعد أن شاهد مثابرة شخص بالغ. والبالغون المحيطون في غالبية الأوقات بالأطفال الصغار والمراهقين هم الآباء والأمهات، وكلما رأى الطفل منهما الاجتهاد والمثابرة في إنجاز الأعمال والمهام حرص هو أو هي كذلك، وبالتالي اكتسب تلك السمات المهمة في تطوير الذات، والتغلب على المصاعب، والنجاح في التحصيل الدراسي، والحرص على تناول الأطعمة الصحية، وممارسة الرياضة البدنية، وغيرها من السلوكيات الصحية والحياتية التي تجعل الطفل على مر السنوات شخصاً بالغاً ناجحاً".
حين يكون للقدوة هذا الدور المؤثر في حياة الأطفال، حيث يتأثر الأطفال الصغار وهم في سن مبكرة بالكبار، ويقلدون سلوكهم ويحتدون بهم، فإن من واجب الكبار الالتزام بالمبادئ والأخلاق الحسنة قولاً وفعلاً، وتجسيد القيم الإيجابية وتطبيقها تطبيقاً عملياً، وأن يقرنوا أقوالهم بالفعل والعمل، وأن يكونوا مثالاً في الصدق والأمانة والتواضع ولين الجانب والمثابرة وإصلاح الذات وتنميتها، والتطلع لمعالي الأمور، وحب الخير، وبغض سفاسف الأمور، وامتلاك مؤهلات التواصل مع الآخرين والتحاور معهم، واحترام أفكارهم وآرائهم، والاختلاف معهم بالتي هي أحسن.
خلاصة القول بأنه من الضروري أن تحرص البيئات التي يعيش الطفل في محيطها على الالتزام بالقيم والمبادئ الأخلاقية قولاً وعملاً، فالأطفال دائماً ما يحاكون من هم أكبر منهم، ويقلدون من يحبون ويتّبعونهم، ويحذون حذو من حولهم، سواء كان ذلك في الأسرة، أو في الحضانة، أو في المدرسة، أو بين الأصدقاء والمعارف.