الطفولة كصفحة بيضاء
للتنشئة دور أساسي في تكوين شخصية الفرد سلباً أو إيجاباً. فقد ينشأ في بيئة تؤمن بمبدأ الحوار والتشاور وتأخذ بالأسلوب الحواري في الإقناع. أو قد ينشأ في بيئة تسودها ثقافة التسلط والهيمنة والإقصاء والترهيب والتهديد. فالكثير من السلوك الإيجابي أو السلبي في التعامل بين الناس هو في الغالب نتاج وانعكاس للتربية التي يتلقاها الفرد في بيئته الأسرية، أو في البيئة الاجتماعية التي ترعرع فيها. فالإنسان عادة ما يولد صفحة ناصعة البياض، غير مطبوع عليها أيّ شيء، غير أنّ المحيط الذي يعيش فيه هو الذي يشكل شخصيته، ويحدّد ملامحها ومعالمها المستقبلية.
لذلك فإنه من الأهمية بمكان اغتنام مرحلة الطفولة والتنشئة الاغتنام الحسن المحمود، والحرص على تنمية القيم الحسنة، والتأسيس لثقافة الحوار وآدابه منذ الصغر، تربيتهً وتوجيهاً وتثقيفاً وتدريباً وممارسة، وذلك انطلاقاً من البيت، من خلال تلقي التربية الصالحة والسليمة والمتوازنة من الوالدين. فالطفل منذ أن يفتح عينيه على هذه الدنيا يبدأ عن طريق الحسّ بالتعلّم واكتساب السلوك والآداب والأخلاق، ومختلف العادات، وكيفيّة التعامل مع الآخرين. حيث تؤثر سنوات التنشئة الأولى كثيراً في بناء شخصيته. فتصرفات وسلوك والديه، ومن حوله، لها دور أساسي في تشكيل شخصيته، كون الأسرة هي المساهم الأول في نمو الطفل، وتوجيه سلوكه وممارساته.
إن مرحلة الطفولة تعد من المراحل الأساسية والمهمة في بناء شخصية الفرد فكرياً وعاطفياً وسلوكياً واجتماعياً. فالخبرات التي يتعرض لها الطفل خلال السنوات الاولى من عمره تعتبر من أهم الخبرات التي تنطبع في ذاكرته. ففي سنوات الطفولة تكون النفس البشرية مرنة، وقابلة للتشكيل والتطويع بسهولة، فهي كالصفحة البيضاء الخالية من أي أثر، والقابلة لتلقي ما صلح من قيم وما فسد، كونها مازالت على فطرتها، وفي كامل طُهرها وبراءتها، وبالتالي يبقى تأثير ما يتلقاه الطفل بكل إيجابياته وسلبياته منطبعاً في نفسه، وراسخاً في ذاكرته على امتداد سنوات حياته، وقد يتحول إلى عادة متجذرة في سلوكه.
لذا فإن ما يمر به الطفل في طفولته سوف يحدد ما إذا كان سيصبح ذكياً أم لا، خائفاً أم واثقاً بنفسه، فصيحاً أم معقود اللسان، وذلك حسب ما تقوله سلوى المجالي، من قسم الطفولة المبكرة بكلية التربية في جامعة الاميرة نورة، مضيفة بأنه "إذا أدركنا أهمية هذه المرحلة العمرية فإنها ستساعد مقدمي الرعاية في الوصول بالطفل إلى بر الأمان، فإذا عاش الطفل في بيئة غنية بالمثيرات والخبرات أدى ذلك إلى تطور جهازه العصبي، والذي يحدد تفرد كل فرد بشخصيته. وليس من المفيد التقليل من أهمية هذه المرحلة على اعتبار أن الطفل لا يفهم، كما هي المقولة الدارجة بين مقدمي الرعاية بأنه «ما زال صغيراً، أو لمّا يكبر رح يفهم»، لأنه لا يمكن فصل أو الغاء سنوات من عمر الإنسان على اعتبار أنها غير مهمة، فكل فترة بحياتنا لها دور مهم، خاصة في النمو المعرفي والاجتماعي والانفعالي.
فالخبرات التي يتعرض لها الطفل خلال السنوات الاولى من عمره تعتبر أهم الخبرات، بسبب أنها تنطبع في الذاكرة «كالنقش في الحجر» كونها الخبرة الاولى، وبالتالي يبقى تأثير نتائجها سواء إيجابية أم سلبية على الفرد لسنوات لاحقة. وكذلك التعلم، إذا كانت مقدمات التعلم صحيحة وسليمة، فإن المخرجات ستكون كذلك صحيحة وسليمة، وذلك يعني أنه إذا تعلم الطفل المهارات والمعارف والأخلاق بطريقة صحيحة ومناسبة، ساهم ذلك في نموه السليم، وبالتالي ستكون المخرجات سليمة".
وعليه فإن ما يتربى عليه الطفل من قيم سلوكية داخل الأسرة، ويتعود عليه في محيط عائلته، سينعكس في سلوكه سلباً أو إيجاباً خارجها، وذلك حين يكبر، ويبدأ الاختلاط بالآخرين، والتعامل معهم لاحقاً خارج البيت، أو في المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه. فالأطفال عادة ما يقلّدون ما يرون وما يسمعون بشكل شعوري أو لا شعوري، ويتأثرون بالأجواء التي تسود داخل المنزل، وكيفيّة تعامل أفراد الأسرة فيما بينهم، ويتقمصون دور آبائهم، ويتمثلون سلوكهم.
وحين تكون العلاقة داخل الأسرة قائمة على أساس الودّ والعطف والحنان والتقدير والاحترام والتعاون والحوار والتشاور، فإنه سوف يتشبع بالقيم الإيجابية السائدة فيها، ويتقمص هذا السلوك الحسن ويألفه ويتأثّر به في تعامله مع الآخرين، ويتعلم ثقافة الحوار وآدابه، وقيم التسامح وقبول الآخر. أمّا إذا كان يعيش ضمن أسرة تقوم علاقاتها على الشجار، والخلاف، وعدم الاحترام والتعاون، فإنه سوف يتشبع بالقيم السلبية السائدة داخل الأسرة، ويتربى على أساليب القسوة والعنف والإكراه والاقصاء وتدمير الآخر، ويبني علاقته مع الآخرين على هذا الأساس.
علاوة على ذلك ربما يصبح صاحب شخصية ضعيفة عاجزة منقادة للآخرين، نتيجة ما مورس عليه من تسلط وغلظة وقمع وشدة وقسوة وضرب وتهميش وحرمان وإقصاء وتحقير وإهانة وسخرية، وسلب لاستقلاليته، وتقليص لمجال الاختيار لديه، وعدم مشاركته في صنع القرار، وفرض القرارات عليه من دون استشارته والتحاور معه، أو سؤاله عن رأيه كي يشعر بقيمته والاستقلالية.
وعلى النقيض من ذلك يمكن أن يكون صاحب شخصية قوية قادرة ومبدعة، نتيجة ما حضي به من رعاية واهتمام واحترام وحب وحنان وتشجيع وتفهم، وامتداح إيجابياته وإمكاناته وقدراته، واعطائه الفرصة للتعبير عن مشاعره ورأيه، واحترام استقلاليته، والحرص على استشارته والحوار معه، والسماح له بأن يكون جزءً من صنع القرار، من خلال سؤاله عن رأيه، وهو الأمر الذي يشعره بالسعادة والاستقلالية.
وبناء على ما ذكر آنفاً فإنه ينبغي على الآباء التعرف على الأساليب والأصول والقواعد التربوية السليمة التي تساعدهم على تنشئة أبنائهم بالشكل الصالح والسليم، واكتساب المزيد من الخبرات التي تحسن مهاراتهم التربوية الصحيحة، والإلمام بأساسيات العلاقات الأفضل مع الأبناء وطرق التعامل معهم، والتعرف على المؤثرات التي تؤثر على الطفولة في مراحل التنشئة المختلفة.
فالتربية السليمة والصالحة والمتوازنة بحاجة إلى فهم أكبر لمراحل التنشئة، وما تتطلبه من احتياجات تربوية وقيمية وأخلاقية وروحية ومعرفية، من أجل بناء أجيال غير مشوهة نفسياً وأخلاقياً وروحياً، وإنما تنشئة أجيال صالحة وواعية، ومتسلحة بالأخلاق والعلم والمعرفة، وقادرة على مواجهة تحديات العصر، والمساهمة في بناء مجتمعاتها وأوطانها والرقي بها نحو الأفضل.