الدين والصراعات الاجتماعية
بعض آيات الكتاب العزيز ربما تستوقف البعض مثيرة في ذهنه تساؤلا مقلقا عن دور الدين في انقسام المجتمعات وصراعاتها وتشتتها. من تلك الآيات قوله تعالى: «وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ» وقوله: «وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ» وقوله: «وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ»
لكن التدبر في تلك الآيات وأمثالها يهدي إلى حقيقة أخرى تكشف عن سر التفرق والاختلاف، تبين أن أُسّ ذلك كله هو البغي. نقرأ هذا في عدة مواضع من القرآن المجيد، كقوله تعالى: «كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ» وفي قوله: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ» وفي قوله: «وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ».
فما المقصود بالبغي الذي له كل هذا التأثير السلبي على استقرار المجتمعات وتشرذمها ودخولها في دوامة النزاعات وتبديد الطاقات؟
البغي كما يظهر من خلال تتبع استعمال لفظه في الآيات الشريفة يُقصد به تجاوز الحد والاعتداء على حقوق الآخرين دون وجه مشروع. قال تعالى: «فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ» وقال: «خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ» أي تجاوز بعضنا ظلما على الآخر، وقال: «إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ».
أما البغي في الدين فهو عدم الخضوع للحق والتعدي على أهله ظلما وعدوانا. يقول تعالى: «بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ». فالانقياد للحق ليس بالأمر اليسير على كل أحد، إذ يحتاج عقلا منفتحا وقلبا منشرحا ونفسا لا يشوبها الكبْر والغرور والحسد.
لم يتقبل أولئك رسالة رسول الله لأنها بحسب معاييرهم الجاهلية كان ينبغي أن تنزل على غيره: «وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ». وقال عن سبب إعراضهم عن التذكرة: «بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً». وقال في موضع آخر: «وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ». وقال في موضع رابع: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا».
من خلال هذه الآيات وغيرها نفهم دور البغي في تفكك المجتمعات وتدميرها، وأن التفرق والتمزق هو نتيجة لسلوك الناس في الدين، لا سلوك الدين في الناس. يقول تعالى: «شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ».