الكلمات وأثرها في تنشئة الطفل وتشكيل شخصيته
الكلمات والألفاظ التي تقال أمام الطفل، وتتكرر وتعاد باستمرار على مسامعة، تعلُق في ذاكرته، وترسُخ في ذهنه، وتُصبح جزء من وعيه وقاموسه وألفاظه، وتُشكل سلوكه وتصرُفاته، وتُساهم في تشكيل شخصيته، وهو ما ينعكس على حياته الاجتماعية مستقبلاً، وتؤثر في علاقاته بالآخرين.
فالبيئة التي ينشأ فيها الطفل إذا كانت تُربي فيه القيم الإيجابية، وتشجعه على تعلم الألفاظ الجميلة والكلمات الطيبة، فسوف تجعله محبوباً في المحيط الذي يعيش فيه، وتجعل المحيطين به يتوددون إليه ويتقربون منه، ويتعاملون معه برقي واحترام. أما إذا كان ما تربى عليه وسمعه من كلمات ذات محتوى سلبي، ومضمون غير لائق، فإن الناس سوف ينفرون من حوله، وينبذونه، ويحذرون من مجالسته وصحبته والتقرب منه، ويصبح منبوذا وغير مقبول اجتماعياً.
ففي دراسة أعدتها الدكتورة إليزابيث سويني من جامعة سينسيناتي والمتخصصة في مجال الاجتماع خلُصت في نتائجها إلى "إن الأطفال الذين ينشؤون في كنف عائلة يتسلط فيها الأبوان يميلون إلى الاستئساد على الآخرين والهيمنة عليهم عبر شتى وسائل الضغط والترهيب.
ووجدت الدراسة أن الأطفال الذين يعيشون في جو هادئ بعيد عن التسلط والخوف ويشعرون بالحب والحنان يتصرفون بشكل مغاير تماماً مع الآخرين، ويتميزون بدماثة الخلق، ويراعون قواعد التصرف اللبق مع الغير في البيئة التي يعيشون فيها. وقالت سويني إن الأطفال الذين يعاملون بعدائية وتساء معاملتهم جسدياً ونفسياً من جانب الأبوين تتغير تصرفاتهم ويصبحون عدائيين مع الغير.
ولاحظت الدراسة بأن الأطفال يتعلمون من آبائهم كيفية التصرف مع الآخرين والتفاعل معهم، إلا أنه إذا تصرف الآباء بعدائية واستخدموا كلمات تنم عن غضب وكراهية فإن سلوك أطفالهم يتأثر تبعاً لذلك عند اختلاطهم مع أقرانهم في المدرسة. "
لذلك يقع على عاتق الوالدان مسؤولية تربية أولادهم على اكتساب العادات السلوكية الطيبة، وتعليمهم الكلمات الجميلة وترسيخها في أذهانهم، وتطوير قاموسهم اللفظي مع كل مرحلة من مراحل العمر، وبما يتناسب مع مستواهم الفكري والعقلي والثقافي، وعدم تعويدهم على سماع الكلمات والألفاظ السلبية والنابية والغير لائقة، والعمل على تهذيب ألفاظهم، وتنشئتهم على الكلمات الطيبة المهذبة التي تعزز ثقتهم بأنفسهم، وترتقي بعلاقاتهم مع من حولهم، أو بمن يتعاملون معه.
إن الأبناء عادة ما يحاكون البيئة الأسرية التي يعيشون فيها، ويقلدون آبائهم ويحدون حدوهم، وهو الأمر الذي يحتم على الآباء أن يكونوا حدرين في تصرفاتهم وسلوكهم ولغتهم وتعابيرهم، وأن يكونوا في تصرفاتهم القدوة الصالحة لأبنائهم، والتعامل معهم بلغة طيبة ملئها الحب والحنان والاحترام، وأن يستعملوا معهم الكلمات المشجعة التي ترفع معنوياتهم وتزيدهم ثقة في النفس، بعيداً عن اللغة الجارحة والكلمات النابية وأساليب التوبيخ، أو التعامل معهم بالعنف والقسوة وعدم الاحترام، وإلا فإن أبنائهم سوف يقتدون بهم، ويعمدون إلى تقليدهم ومحاكاتهم.
ففي العادة يتعلّم الطفل ويكتسب جميع سلوكياته من خلال المنزل والوالدين، سواء كانت هذه السلوكيات ايجابية أو سلبية. فهو في هذه السن يكون، ليس شديد التعلق بوالديه وينظر إليهما كقدوات فقط، بل هو أيضاً يراقب ويلاحظ ويسجل كل ما يدور من حوله. فتراه يُعبّر عن بعض القيم من خلال ما تعلمه من سلوكيات وألفاظ في بيئته العائلية، ومحيطه الأسري والاجتماعي، إضافةً إلى ما قد يتعلمه لاحقاً من خلال التعايش مع المجتمع والاختلاط بالناس. ففي مرحلة التلقي والتشرب من الضروري تعزيز الألفاظ الإيجابية في نفوس الصغار، وتعويدهم على قول الكلام الحسن، واختيار أجمل العبارات عند الحديث والكلام معهم وفي حضورهم.
إن الألفاظ والأفكار التي يتبناها الطفل، كما يقول محمد بن عبدالعزيز العقيل، «تتأثر بالبيئة الاجتماعية التي ينشأ فيها؛ لأنَّ التفاعل الاجتماعي السليم والعلاقات الاجتماعية الناجحة تعزز الفكرة السليمة الجيدة عن الذات، وتعلمه الألفاظ المقبولة، بل وينشأ بعيداً عن الألفاظ النابية، ومستنكراً لها، غير آلف لها، والعكس صحيح، فإذا اعتاد سماع تلك الألفاظ في الأسرة، كأن ينادى بها، أو يدعى عليه بها، أو يسمعها تتداول في الأسرة بين أفرادها، فإنَّه ينشأ معتاداً لها، ويستخدمها في تعاملاته اليومية؛ لأنَّ الطفل يرى أبويه هُما القدوة له في الحياة، فما رأوه حسناً رآه حسناً، وما رأوه قبيحاً رآه قبيحاً، حيث أنَّ تأثير السلوك أكثر من تأثير الكلمات، فإذا رأى السلوك الإيجابي اقتدى به وأخذه، وكذا السلوك السلبي؛ فالطفل »عجينة« طرية قابلة للتشكيل، إذ أن سلوك الوالدين والبيئة المحيطة به هي من يُشكِّل تلك العجينة».
لا شك بأن الأطفال الصغار هم كالصفحة البيضاء، أو العجينة القابلة للتشكل، والتي يمكن للأسرة المساهمة في تشكيلها. حيث باستطاعة الآباء التأثير في اتجاهاتهم وميولهم وسلوكياتهم من خلال تربيتهم على التعاليم والقيم والعادات الطيبة. غير أن بعض الآباء لا يبدلون الجهد اللازم للاعتناء بأبنائهم ورعايتهم أخلاقياً وتعليماً وتثقيفاً ونفسياً واجتماعياً من أجل حياة مستقبلية أفضل لهم. فهم لا يعرفون غير اللغة الخشنة، والتعابير القاسية في التعامل مع الأبناء، عوضاً عن إتباع الأسلوب اللطيف والمرن، واللغة الحوارية المتزنة معهم، بقصد التأثير فيهم وتشكيل أفكارهم، أو لإقناعهم بتعديل سلوكياتهم السلبية، وتصحيح أخطائهم، أو لتطوير مهاراتهم اللغوية واللفظية، وإيصال المعلومات والمفاهيم الثقافية لهم، والتي تطور أفكارهم وتنمي مخزونهم الثقافي، وهو الأمر الذي يهيئهم لدخول مراحل حياتهم المستقبلية بطريقة آمنة، وبعيدة عن المشكلات النفسية، خاصةً في مرحلة المراهقة والشباب.