ليقف الإنسان خشوعاً والقلم خضوعاً
عظم الله لكم الأجر أحبتي جميعاً بهذا المصاب المفجع الذي هز كيان الأمة حيث أصابها الذل والهوان والشقاق والظلم والجور إلى يومنا هذا. عزيزي القارئ وأنت تشاطر هذا العالم حزن الأيتام في كل مكان تذكر وضعهم بعد فراق هذه الشخصية التي جسدت معنى الإنسانية كلها. فمن أنا الذي يستطيع أن يبحر في أعماق هذه الشخصية ويتحدث أو يكتب عنها.
عزيزي القارئ
في ذكرى استشهاده سلام الله عليه بحثت في ذاكرتي واطّلعت في كتب التاريخ لعلّي أقرأ ما لم أقرأه من صفحات حياة هذا العظيم الذي خدم الإنسانية ولازال بفكره وشخصيته الفريدة. فكان هذا المقال.
من الرجال ما يصعب وصفهم والحديث عنهم، والإحاطة بشخصيتهم. ومنهم من يبلغ الحديث عنه صعوبةً حد الاستحالة؛ لأنهم، وإن كان الرجل منهم هو شخصاً واحداً، إلا أنه بمواصفاته وامكاناته وروحه يكون بمثابة أمة. بل أُمم، فهو مجمع القيم المُثلى، وفي هؤلاء تتجلى آيات الله في عظمة الإنسان ومنزلته. ومن هؤلاء؛ إمامنا أمير المؤمنين علي بن ابي طالب ، فكيف يمكن وصفه وهو القرآن الناطق؟ وكيف يوصف وهو القائل في حقه رسول الله : «يا علي. ما عرف الله إلا أنا وأنت، وما عرفني إلا الله وأنت، وما عرفك إلا الله وأنا».
السلام عليك يا أمير المؤمنين وسيد الوصيين وقائد الغر المحجلين.
إلى دوحة العلم التي أينعت ففاضت ثم فاضت، الى الحكيم الذي نزف لسانه علماً غادفاً، إلى من كانت العبر والمواعظ تنير العقول متلألئة في فمه الشريف، الى الذي ملأ الدنيا بعلمه وحضن الألباب ونقلها الى ساحة المُلك الرفيعة، الى من أثرى الساحة الإسلامية بفصيح كلامه الى سيد البلغاء وأمير الحكماء فلا فضل كفضله ولأعلم كعلمه.
وحين التحدث عن هذه الشخصية المتكاملة ليقف الإنسان خشوعاً والقلم خضوعاً إلا من مداده الفذ ليخط كلمات يشعر بها القلم سيكون خالدا كخلود من يكتب عليه. هو بهذا اللون البهيج عصي على الحرف بتصويره بقدر ما هو قصيٌّ عليه بمعانيه.
الناس يولدون ويموتون ويطويهم النسيان، أما هو فلقد أتى الدنيا، وكأنه أتى بها، ولما أتت عليه بقي وكأنه أتى عليها. جاء لا ليقتلع بوابة خيبر العصية من جذورها، بل جاء ليقتلع حصون الجهل والشر والظلم والطمع من عقل الإنسان. هذا هو أمير المؤمنين .
حيثما تبحث عن العدالة ستجد علياً ، وحينما تبحث عن الإنسانية فإنك لن تلاقي نظيراً له . فهو النموذج الأرقى والمثل الأعلى، ومن مثله في إنسانيته وعدالته وكرمه وشجاعته، وأين هم العالم من علمه وأدبه وبلاغته وسعة صدره وحنانه؟ نعم. أين هم.
إنه «عليه الصلاة والسلام» تجسيد حقيقي لكل القيم والفضائل الإنسانية، فإنك تجده بحراً من بحور العلم وكنزاً من كنوز المعرفة ولا يسعك إلا أن تعتبره بمثل تلك المعاني السامية التي تكوّنت في شخصيته، فلم تعرف البشرية له مثيلاً، تلك البشرية التي لو أنها أزالت تلك الغشاوة عن عينيها، لأدركت أنها خسرت علياً وأضاعته، عندما لم تنصفه في تاريخها الأدبي والعلمي والإنساني والأخلاقي ولا تزال إلى يومنا هذا.
ولأنه شعاع للقيم ونبراس للحضارة، تجد أن العظماء يتخلّون عن رداء عظمتهم أمامه! فلا يملكون إلاّ أن يطأطئوا الرؤوس وينحنوا إجلالاً وإكباراً له «صلوات الله عليه»
وأيًّا كانت عقيدة أولئك العظماء، أو ثقافتهم، فإنهم - عندما يتعلق الأمر «بابن أبي طالب»
تَصغرُ أنفسهم أمامه، ولا يرون مندوحة من تعظيمه. حتى أن العشق يتملكهم تجاه تلك الشخصية الرفيعة العملاقة!
ومن لا يعشق مثله، وهل في هذه الدنيا مثله!
لذا ترى العلماء والأدباء والمفكرين والساسة والمثقفين والأكاديميين وكل طلاب الحقيقة وجميع محبي المكارم الانسانية ومن مختلف الأديان والمذاهب والاتجاهات الفلسفية والفكرية والعلمية، يجلّون هذا الانسان العملاق العظيم الذي أذهل العالم وأظله بعدله وإنسانيته.
وأحد هؤلاء المفكرين هو المفكر والأديب المسيحي الشهير جورج جرداق، الذي دفعه «اكتشافه علياً من جديد» إلى أن يؤلف ستة مجلدات ضخمة قرأ فيها شخصيته الفذة ، مقدّماً هذا النتاج العلمي الواسع تحت عنوان «علي صوت العدالة الإنسانية»، ذلك الكتاب الذي ذاع صيته في كل الأرجاء فأحدث دوياً قلّ نظيره في عالم اليوم وغيرهم من الفلاسفة والمفكرين.
قال فيه بولس سلامة
لم يستطع خصوم علي أن يأخذوا عليه مأخذاً فاتّهموه بالتشدّد في إحقاق الحق، أي إنهم شكوا كثرة فضله فأرادوه دنيوياَ يماري ويداري وأراد نفسه روحانياً رفيعاً يستميت في سبيل العدل، لا تأخذه في سبيل الله هوادة. وقال أيضاً: رجل يهتف باسمه مئات الملايين من الناس في مشارق الأرض ومغاربها خمساً كل يوم، يذكره النصارى في مجالسهم فيتمثلون بحكمه ويخشعون لتقواه، ويتمثل به الزهّاد في الصوامع فيزدادون زهداً وقدوة، وينظر إليه المفكر فيستضيء بهذا القطب الوضاء ويتطلّع إليه الكاتب الألمعي فيأتم ببيانه، ويعتمده الفقيه فيسترشد بإحكامه.
لقد وهب نفسه للإسلام وهذا ما جاء في بعض مقتطفات دعاء كميل حينما قال فقد أحبه كما لم يحبه إلاّ الأنبياء، يقول «هبني صبرت على عذابك، فكيف أصبر على فراقك، وهبني يا إلهي صبرت على حر نارك، فكيف أصبر عن النّظر إلى كرامتك.» إلى آخر الدعاء.
كان من ضمن وصيته وهو على فراش المرض يوصي بها إلى ابنه الإمام الحسن حيث قال: «كونا للظالم خصماً وللمظلوم عونا» ويهدف من هذه الكلمة إلى تكاتف المجتمع وحب بعضهم البعض وحثهم على الحب والمودة فيما بينهم ويمثل كذلك الجانب السياسي لو تفهمنا من وصيته بصفته سلام الله عليه كان الوصي على المسلمين في علاقة الحاكم بالمحكومين.
أن يكون الأساس في معاونة الإنسان لأخيه والوقوف معه ويعاونه أن كان مظلوماً وأن تقف ضد الشخص الظالم وهذا المبدأ يمثل الجانب الاجتماعي في علاقة الناس ببعضهم البعض سلام الله عليك يا أمير المؤمنين.
أنه سلام الله عليه يخاطب الناس وكأنه يقول لنا ونحن في هذا الوضع التائه: حاولوا أن تنظّموا أموركم وعلاقاتكم وأوضاعكم في القضايا الّتي تختلفون فيها، وأن تنظّموا أوضاعكم في القضايا التي تتّفقون فيها، حتى تستطيعوا أن تواجهوا علاقاتكم ببعضكم البعض، من موقع التنظيم الواعي لأموركم، في كل ما تلتقون عليه، وفي كل ما تفترقون فيه هكذا هو سيد الوصيين وأمام المتقين إنه رجل العدل والتّقى وإمام الإنسانية.
وهذه هي المشكلة الّتي لا يزال المسلمون يعيشون فيها على مستوى كل مجتمعاتهم، فإنّهم يتحرّكون كأفراد، ولا يتحركون كمجتمع، بحيث إن كل فريق وكل طائفة يتصور نفسه كل شيء، أو كل شخص يتصوّر أن الحياة له، وليس لأحد حقّ الحياة معه، وأن الساحة له وليست لأحد غيره وأنه الملك والمتصرف وأنه الرب وليس عليه احداً يراقبه ويحاسب تصرفاته وأنه سوف يأتي يوم يقف أمام الله في يومٍ لا ينفع فيه مالا ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
إن انتماءنا لعلي يفرض علينا أن نكون الصادقين، أن نكون الأمناء، وأن نكون المحقّين، الذين يتحركون مع الحق. فعلي ليس كلمةً نهتف بها، بل هو موقف ورسالة، لا بد أن نلتزم بها ونتبعها وعلى هذا الأساس فإذا أردنا أن نقف مع علي فلا بد من أن نواجه الباطل كله كما واجه سلام الله عليه.
السلام عليك يا سيدي يا أمير المؤمنين وسيد الوصيين وإمام المتقين أسد الله الغالب وسيد البلغاء ونصير الضعفاء. نعزي نبينا محمد واله لاسيما صاحب هذه المصيبة بقية الله ارواحنا لتراب مقدمه الفداء ولمراجعنا العظام وجميع عشاق هذه الشخصية العظيمة.