الشعائر الحسينية بين التأصيل والتشكيك 1

مع بداية موسم عاشوراء لاسيما في السنوات الأخيرة، يكثر النقاش والجدل حول الشعائر الحسينية، بين مؤكد على مطلوبيتها وبين متسائل عن مشروعيتها وبين مشكك فيها وفي أهدافها، وعلى أن هذا الموضوع قد تم بحثه وبيانه من قبل أهل الاختصاص، لكن لما وجدت ان هناك خلل كبير وفجوة واسعة في فهم ما يرتبط بهذا الموضوع - الهام - لدى المجتمع الشيعي في شكله العام «وليس عند أهل المعرفة الدينية منه »، قررت ان اكتب هذا المقال الموجز الذي سأحاول ان أعرض فيه صورة إجمالية عن الشعائر الحسينية مستفيدا مما جاد به أعلام الطائفة وعلمائها سدد الله خطاهم، وسأتعرض للإثارات التي نسمعها كثيرا في مثل هذه الأيام لنلمس من خلال ذلك شيئا من حقيقة الموضوع بإذنه تعالى..

أولا: مفهوم الشعيرة الحسينية

أولا نأتي بمقدمة لتوضيح مفهوم الشعيرة الدينية لكي نستطيع أن نصل من خلاله الى مفهوم الشعيرة الحسينية:

بالنسبة لمفهوم الشعيرة الدينية فقد عرّفها أهل اللغة كالتالي: ورد في صحاح اللغة: أعمال الحج، وكل ما جُعل عملاً لطاعة الله تعالى، وشعار القوم في الحزب: علامتهم ليعرف بعضهم بعضا، وأشعر الرجل هما، اذا لزق بمكان الشعار من الثياب من الجسد - وأشعرته فشعر، أي أدريته فدرى...

اما في لسان العرب: والشَّعِيرة البدنة المُهْداةُ، سميت بذلك لأَنه يؤثر فيها بالعلامات، والجمع شعائر. وشِعارُ الحج: مناسكه وعلاماته وآثاره وأَعماله، جمع شَعيرَة، وكل ما جعل عَلَماً لطاعة الله عز وجل كالوقوف والطواف والسعي والرمي والذبح وغير ذلك.

ومن تابع كلماتهم بمجملها يجد بأنّها تصب في نفس المصب وهو أنّ هذه المفردة تشير إلى جنبة الإعلام الحسّي للدين، فكلّ ما يشير إلى الدين صدق عليه شعيرة، وكلّ ما ساهم في تعظيم الدين أو أحد متعلّقاته سمي شعاراً أو شعائر.

أما اصطلاحا، فالشعيرة الدينية هي علامة حسيّة لمعنى من المعاني الدينية.. ولكن هذه العلامة ليست تكوينيّة ولا عقليّة ولا طبعيّة.. وإنّما هي علامة وضعية «1».

يقول اية الله الشيخ محمد السند البحراني: « نقول ان الشعيرة هي علامة وضعية بمعنى ان لها نوعاً من الاقتران والربط والعلقة الاعتبارية.. فالوضع هو اعتباري وفرضي بين الشيئين.. ». فالشعائر هي التي تفيد الإعلام، وكل ما يعلم على معنى من المعاني الدينية او يدل على شيء فيه نسبة إلى الله تعالى، فأن هذا الإعلام والربط بين المعَلم والمُعلم به.. وهذا الربط هو في الماهية وضع اعتباري.. والموضوع يتحقق بالعلقة والربط الاعتباري «2»

فبعد التعرض لهذان الجانبان نعرف أن الشعيرة الحسينية هي علامة حسية مرتبطة بدلالتها بالإمام الحسين - من جهة إضافتها له -.. ولكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن، هل كل أمر ربطه الناس باسم الإمام الحسين يمكن أن يكون شعيرة؟

يمكن القول ان الجواب هو لا وإنما هناك ضوابط لهذه الشعائر حددها أهل الاختصاص وسيأتي إيضاحه في العنوان التالي.

ثانيا: ضوابط الشعائر الحسينية العامة

على إننا لا نستطيع القول انه يوجد ضوابط معينة «خاصة» تم الإجماع عليها لتوجد لنا تحديد دقيق وثابت للشعائر الحسينية «سواء كانت منصوصة او غير منصوصة»، ولكن جميع المراجع والفقهاء تدور ضوابطهم في إطار واحد ولهذا نستطيع القول ان هناك أشبه ما يكون بالضوابط «العامة» المتفق عليها بين فقهاء وأعلام الطائفة.

وبعد ان عرفنا من خلال العنوان السابق ان الشعيرة الحسينية هي «علامة» حسية مرتبطة بدلالتها بالإمام الحسين «سلام الله عليه» فمن هنا نعرف ان أول ضابطة لهذه الشعيرة هي الدلالة على الإمام الحسين عليه افصل الصلاة والسلام، اما الضابطة الثانية التي ذكرها المراجع وإعلام الطائفة فهي ان تكون الشعيرة مباحة، أي بمعنى ان لا يدخل فيها أي من الأمور المحرمة أو الأمور المستلزمة لمحرم، فكيف يمكن ان نقول عن أمر محرم انه شعار وعلامة لأمر ديني بل كيف سيصدق عليه انه من شعائر الله تعالى، وأما الضابطة الأخيرة ضمن أقوال المراجع فهي ارتباط الشعيرة بالحزن والتفجع، وفلسفة ذلك تعود الى ان القضية الحسينية في واقعها هي فاجعة تاريخية عظمى هزت الكون وترتب على حدوثها الآثار الكبرى، فكون الشعيرة هي مصداق للحزن والتفجع هو أمر طبيعي وإنما الغير طبيعي والغير معقول هو ان تحمل الشعيرة في طابعها أمر مغاير لهذا، مثل البهجة أو الفرح فبهذا لن تكون علامة لهذه الفاجعة وإنما أمر مناقض لها.

هذا من جهة عقلية اما من الجهة النقلية فقد استفاضت الروايات في ذكر هذا المعنى منها حديث معاوية بن وهب من دعاء الامام الصادق لزوار الامام الحسين ، قال: « اللهم ان أعدائنا عابوا عليهم بخروجهم، فلم ينههم ذلك عن الشخوص الينا، خلافا منهم على من خالفنا، فارحم تلك الوجوه التي غيرتها الشمس، وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا، وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا». «3»

وفي صحيحة الريان بن شبيب عن الامام الرضا : «يا بن شبيب.. إن كنت باكيا لشيء فابك للحسين بن علي بن أبي طالب فإنه ذُبح كما يُذبح الكبش، وقُتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلا، ما لهم في الأرض شبيهون، ولقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله، ولقد نزل إلى الأرض من الملائكة أربعة آلاف لنصره، فوجدوه قد قُتل، فهم عند قبره شعثٌ غبْرٌ إلى أن يقوم القائم، فيكونون من أنصاره، وشعارهم: يا لثارات الحسين.. ». «4»، وعن الصادق : «نَفَسُ المهموم لظلمنا تسبيح، وهمّه لنا عبادة، وكتمان سّرنا جهادٌ في سبيل الله.. ثم قال: يجب أن يكتب هذا الحديث بالذهب». «5»، وعن سيد الشهداء الحسين بن علي : «أنا قتيل العَبْرة، قُتلت مكروبا، وحقيق على الله أن لا يأتيني مكروبٌ قط، إلا ردّه الله أو أقلَبَه إلى أهله مسرورا». «6»، وأيضا ورد في الخبر انه ما ذُكر الحسين بن عليّ عند أبو عبدالله في يومٍ قطُّ، فرئي أبو عبدالله متبسّماً في ذلك اليوم إلى الليل، وكان أبو عبدالله يقول: «الحسين عَبْرة كل مؤمن». «7».

و كذا ذكر هذا المعنى من قبل أعلام الطائفة ضمن الحديث عن الشعائر الحسينية «8».

و كشاهد على هذا أنقل إجابة سؤال ورد لسماحة المرجع الديني المعاصر السيد صادق الروحاني دام ظله عن ضوابط الشعائر الحسينية فأجاب بالنقاط التالية:

1/ دلالتها على الإمام الحسين، 2/ كونها أداة من أدوات الجزع، 3/عدم اشتمالها على محرم أو استلزامها لذلك. «9»

و حيث انه قد وردت في النقطة الثانية مفردة الجزع، فما هو؟

اما الجزع فهو نقيض الصبر، قال المحقق الطوسي «رح» أن الصبر حبس النفس عن الجزع عند المكروه، وهو يمنع الباطن عن الاضطراب واللسان عن الشكاية والأعضاء عن الحركات المعتادة. وروي في جامع الأخبار أن أمير المؤمنين قال: «الجزع عند البلاء تمام المحنة».

فإذا كان الصبر هو حبس النفس عن الجزع، فأن الجزع نقيض الصبر، بكل مظاهره وشؤونه. ويمكن بعد ذلك القول أن الدين الذي أمرنا بالصبر عند المصيبة هو ذاته الذي أمرنا بالجزع على مصيبة الأمام الحسين ، حيث أن الأخبار الواردة مستفيضة في ذلك منها عن أئمة الهدى : «كل الجزع والبكاء مكروه، سوى الجزع والبكاء على الحسين »، بل انه ورد في بعض النصوص لفظ «الهلع» كما في قول الإمام زين العابدين : « كيف لا أجزع ولا أهلع! ». والهلع هو أفحش الجزع. «10»

من خلال هذا يتضح لنا وصف الشعائر الحسينية والذي منها اللطم والبكاء والصرخة ولبس السواد وإقامة المأتم وغيرها، ومن هنا يمكن معرفة أن التبرع بالدم والتبرع بالصدقات وعموم الأعمال الخيرية الخارجة عن هذا الإطار - ولو قال أصحابها أنها باسم الإمام الحسين - وعلى الرغم من ترتب الأجر والثواب العظيم عليها إلا أنها ليست داخلة في عنوان الشعائر الحسينية عند أعلام الطائفة ولا يقدموها على خصوص الشعائر الحسينية إلا في ظروف استثنائية جدا كالتبرع بالدم في الحال لشخص معين لو استلزم منه إنقاذ له من الموت في حينها،

وفي الحياة الواقعية هذا أمر نادر جدا لان كيس الدم بعد أن يجمع يتم عمل العديد من الفحوصات عليه للتأكد من خلوه من أي مسببات لأمراض او اعتلالات ولتجهيزه ولعمل اختبارات التوافق عليه وهذا يستغرق وقت طويل جدا - إلا في الظروف الاستثنائية -.

ومن باب المثال على هذا نذكر فتوى لسماحة المرجع الديني الشيخ زين العابدين المازندراني «قدس سره» صاحب كتاب ذخيرة المعاد:

"سؤال: الإطعام والمأكولات التي توزع في مجالس عزاء الامام الحسين ، على المشاركين والحاضرين من الفقراء والمؤمنين، هل يضاعف في ثوابها وأجرها، ام تساوي مجرد الخيرات على الفقراء والمساكين في غير ذلك؟

جواب: الإطعام للحاضرين في مجالس عزاء الإمام الحسين من الفقراء والمؤمنين وبأسم التعزية أكثر ثواباً وأجراً".

وايضا فتوى لسماحة المرجع الديني السيد محمد صادق الروحاني دام ظله حيث وجه له سؤال كالتالي: «أيهما أفضل الصدقة على الفقراء، ام بذل الطعام في عزاء الإمام الحسين . الجواب: باسمه جلت أسماؤه، بما أن بقاء الإسلام بالثورة الحسينية، وبما أن بقاء الثورة إنما هو بالشعائر الحسينية، فإحياء تلكم الشعائر أفضل من جميع الأعمال المستحبة». «11»

ثالثا: أهمية الشعائر الحسينية

قال تعالى ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴿صدق الله العلي العظيم

لاشك ولا ريب ان الشعائر الحسينية هي احد الدعامات الرئيسية في المحافظة على الإسلام الأصيل والهوية الشيعية فهي عبارة عن استمرار وتخليد للثورة الحسينية ولذكر الحسين الذي ثار في سبيل الحفاظ على الإسلام من الاندثار، وهي التي ساهمت في بناء الأجيال المتتالية مزودة بالمبادئ الحسينية والعلوم الإسلامية الأصيلة، وهي التي ساهمت في فضح الطغاة والظالمين، وأيضا هي التي ساهمت في التعريف بمذهب أهل البيت ونشر فكره في مختلف أصقاع الأرض، الى غيرها من الفوائد الجمة الغير خافية والتي لا يسع المجال للحديث عنها كلها هنا، وفي هذا يقول سماحة المرجع الديني الميرزا جواد التبريزي قدس سره في جواب سؤال وجه له حول تعارض إحياء الشعائر الحسينية التقليدية بعصر الحداثة - حسب قول البعض - وانه ان كان هناك شعور قلبي مع الإمام الحسين فلا داعي لهذه المظاهر التي قد تسئ الى الشيعة والتشيع فكان جوابه التالي: «بسمه تعالى، هذه المظاهر الغير متعارفة في نظر البعض لمناسبات العزاء في موت بعض الأشخاص، إنما هي لغرض الإبقاء على ذكرى قضية كربلاء التي هي إحدى الدلائل القاطعة على حقانية مذهب أهل البيت وبطلان مذهب المخالفين. وهذه المظاهر غير المتعارفة تجري في بعض أنواع الدعايات والأعلام للفت أنظار الناس الى أهمية الموضوع. ولابد أن نحافظ على استمرار هذه المظاهر لتبقى على مدى العصور والأجيال، ويبقى الدليل على حقانية مذهب أهل البيت محفوظا في قلوب الشيعة وشعورهم ينتقل من جيل إلى جيل ومن نسل إلى نسل.... كل هذا حتى لا تنسى هذه القضية، كما نسيت قضايا متعددة مهمة حدثت في صدر الإسلام مما سبب إنكار غالب المسلمين لها أو التشكيك فيها، حتى من بعض المنسوبين للشيعة، فأسأل الله أن يحفظكم من كل فتنة تضعف من هممكم في المحافظة على إقامة الشعائر الحسينية وإحياء المناسبات المرتبطة بأمر اهل البيت إنه سميع مجيب. » «12»

يتبع

[2][1] الشعائر الحسينية بين الأصالة والتجديد, للسند/ج1, ص 67- 68
[3] كامل الزيارات, ص 126
[4] أمالي الصدوق مجلس 27 رقم 5
[5] جواهر البحار ص 278
[6] كامل الزيارات ص 108
[7] جواهر البحار ص280
[8] كامل الزيارات ص 229
[9] قربان الشهادة, للسيد الروحاني, ص 78
[10] المصيبة الراتبة, للشيخ بادي, ص 606-608
[11] قربان الشهادة, للسيد الروحاني, ص 86
[12] الشعائر الحسينية, للميرزا التبريزي, ص 11