أسراء المراحل
البعض منا قد يعيش أسيرا على تراث وتوجهات لبعض الشخصيات كانت تخدم الدين والمجتمع، وكانت في جهاد في فترة ما، ويرى نفسه ضمن هذا التوجه وهذا التراث يصعب عليه تغييره أو انتقاده أو قبول من ينتقده حتى!
بينما يحذرنا القرآن الكريم حينما يحكي لنا قصصا وأحداثاً في التاريخ لشخصيات كانت على مستوىً شامخ من التقوى والزهد والجهاد والإيمان ثم انسلخ منها، بل ويكيل عليه القرآن الكريم بالشتم وتوصيفه بأوصاف بعض الحيوانات التي تدب على الأرض؛ ولا نجافي الحقيقة حينما نقول لأنه أصبح عنصرا خطيراً على الدين والمجتمع فيستحق هذا التوصيف؛ ليكون رادعا لكل من يتأثر بأفكاره وتوجهاته المنحرفة عن الدين، فهل نستطيع أن نقول إن هذا كان عالما وزاهدا وورعا ومجاهدا وما أشبه ونعيش مرحلته السابقة من الإيمان والجهاد حينما نراه قد انحرف عن الدين أو تبين لنا بكل وضوح أنه يطعن في الدين والمذهب مثلا؟
إن هذا المبدأ خطأ جليُ حذّرنا الكتاب العزيز من الانزلاق فيه، بما أعطانا من عقل وحرية تفكير ومقاييس الحق من الباطل.
فهذه قصة بلعم بن باعوراء وما وصل إليه من مراتب جليلة في استجابة الدعاء. يقول المحدث السيد هاشم البحراني قدس سره في تفسيره: «قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ*َلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ الأعراف: 175 - 176 إنها نزلت في بلعم بن باعوراء، وكان من بني إسرائيل.
4084 / [2] - ثم قال علي بن إبراهيم: وحدثني أبي، عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن الرضا : «أنه أعطي بلعم بن باعوراء الاسم الأعظم وكان يدعو به فيستجاب له، فمال إلى فرعون، فلما مر فرعون في طلب موسى وأصحابه: قال فرعون لبلعم: ادع الله على موسى وأصحابه ليحبسه علينا، فركب حمارته ليمر في طلب موسى وأصحابه، فامتنعت عليه حمارته، فأقبل يضربها، فأنطقها الله عز وجل، فقالت: ويلك، على ماذا تضربني، أتريد أن أجيء معك لتدعو على موسى نبي الله وقوم مؤمنين؟! ولم يزل يضربها حتى قتلها، فانسلخ الاسم من لسانه، وهو قوله: * «فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَه الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ ولَوْ شِئْنا لَرَفَعْناه بِها ولكِنَّه أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ واتَّبَعَ هَواه فَمَثَلُه كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْه يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْه يَلْهَثْ» * وهو مثل ضربه الله»» البرهان في تفسير القرآن ج2 ص616.
وإبليس أيضا قبل بلعم بن باعوراء فقد عبد الله ستة آﻻف سنة! وكان خطيب الملائكة فعليه كيف ننسف ذلك التاريخ كله أﻻ يستحق أن نثني عليه؟!
فهذا مثال واحد من القرآن أعطاه الله الاسم الأعظم بما وصل من مراتب عالية من التقوى والصلاح ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فاستحق الطرد من رحمة الله تعالى، فالتغني بالتراث والجهاد والعلم في المرحلة الغابرة ثم انحرفت عن تعاليم الله تعالى وأهل البيت عيهم السلام، لأي شخصية كانت ليس صحيحا بتاتا، بل هو مذموم ويدل على خلل في التفكير والتوجه، فالمقياس الحقيقي لمثل هذه الشخصيات هو إتباعها للحق وسلامة العقيدة والفكر والتوجه والاستقامة على منهج أهل البيت وتعاليم السماء.
وأما الأمثلة التاريخية في الروايات الشريفة ومن كانوا محل ثقة ورواة لأحاديث بعض الأئمة الأطهار فهي كثيرة، فقد كانوا صلحاء لكنهم انحرفوا عن أهل البيت فاستحقوا الذم واللعن من هؤلاء «الواقفية» ومنهم علي بن أبي حمزة البطائني انظروا ما يقوله علماء الرجال في حقه:
قال النجاشي: " علي بن أبي حمزة - واسم أبي حمزة سالم - البطائني أبو الحسن مولى الأنصار، كوفي، وكان قائد أبي بصير يحيى بن القاسم، وله أخ يسمى جعفر بن أبي حمزة، روى عن أبي الحسن موسى وروى عن أبي عبد الله عليهما السلام، ثم وقف، وهو أحد عمد الواقفة، وصنف كتبا عدة، منها: كتاب الصلاة، كتاب الزكاة، كتاب التفسير، وأكثره عن أبي بصير، كتاب جامع في أبواب الفقه أخبرنا محمد بن جعفر النحوي في آخرين، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن غالب، قال: حدثنا علي بن الحسن الطاطري، قال: حدثنا محمد بن زياد، عنه.
وقال ابن الغضائري: « علي بن أبي حمزة، لعنه الله أصل الوقف، وأشد الخلق عداوة للولي من بعد أبي إبراهيم عليهما السلام ».
وقال الشيخ الطوسي في الكلام على الواقفة: " فروى الثقات ان أول من أظهر هذا الاعتقاد علي بن أبي حمزة البطائني، وزياد بن مروان القندي، وعثمان بن عيسى الرؤاسي، طمعوا في الدنيا! ومالوا إلى حطامها واستمالوا قوما فبذلوا لهم شيئا مما اختانوه من الأموال ".
وهنالك أمثلة كثيرة خوفا على تململ القارئ صددنا عنها ومن أراد المزيد فهذه كتب علماء الرجال والفقهاء فليراجعها.
خلاصة القول أننا ينبغي علينا مراجعة أنفسنا فيمن نتبعهم ونجعلهم قادةً لنا وقدوة، وننظر بعين البصيرة في استقامتهم على نهج أهل البيت وإن كانوا يحملون ألقاباً عظيمة وتجعل أمامهم خطوطاً حمراء وأن نتقبل برحابة صدر الحق في أي شخص كانت مكانته، ولا نصم أذاننا ونغمض أعيننا حينما يتضح لنا فساد معتقد وانحراف هذه الشخصية، فإن هذا الأمر مرتبط باخرتنا ومثوانا وحشرنا فنحن مسئولون يوم القيامة عن هذا الإتباع.
صالح المنيان، سيهات 20 شوال 1435 هـ.