هل يطلب النصر بالجور ؟
ينقل لنا التاريخ أن عقيلاً قدم على أمير المؤمنين وكان قد كف بصره فرحب به الإمام ثم التفت إلى ابنه الحسن وقال: قم فأنزل عمك ثم أمره بأن يشتري له قميصاً أداءً؛ فلما حضر العشاء فإذا خبز وملح، فقال عقيل: ليس إلا ما أرى؟
فقال ألإمام أوليس هذا من نعمة الله وله الحمد كثيراً؟
فقال عقليل: أعطني ما اقضي به ديني وعجل سراحي حتى أرحل عنك فقال: فكم دينك يا أبا يزيد؟
فقال: مائة درهم،
قال: لا والله ما هي عندي ولا أملكها، ولكن اصبر حتى يخرج عطائي فأواسيكه، ولولا أنه لابد للعيال من شيء لأعطيتك كله فقال عقيل: بيت المال في يدك وأنت تسوفني إلى عطائك؟ وكم عطاؤك؟ وما عساه يكون ولو أعطيتنيه كله؟
فقال: ما أنا وأنت إلا بمنزلة رجل من المسلمين وكانا يتكلمان فوق قصر الامارة مشرفين على صناديق أهل السوق، فقال له علي: إن أبيت يا أبا يزيد ما أقول فانزل إلى بعض هذه الصناديق فاكسر أقفاله وخذ ما فيه قال: وما في هذه الصناديق؟، قال: فيها أموال التجار، قال: أتأمرني أن أكسر صناديق قوم قد توكلوا على الله وجعلوا فيها أموالهم؟ فقال أمير المؤمنين: أتأمرني أن أفتح بيت مال المسلمين فأعطيك أموالهم وقد توكلوا على الله وأقفلوا عليها؟ وإن شئت أخذت سيفك وأخذت سيفي وخرجنا معاً إلى الحيرة فإن بها تجاراً مياسير، فدخلنا على بعضهم فأخذنا ماله، فقال: أوسارقاً جئت؟ قال: تسرق من واحد خير من أن تسرق من المسلمين جميعاً[1] ".
عند قراءة التاريخ نجد بأن الإمام رسم الخطوط العريضة لحركته داخل الأمة، في التعامل مع الرعية وفي التعامل مع الخصوم. فكان يطلب الحق بالحق، ولن نجد في حياته أنه طلب الحق بالباطل والعياذ بالله، فالقيم الدينية هي مقياس الحركة عنده في تعامله مع الآخرين.
لم يكن الإمام غامضًا في تعامله وتعاطيه مع خصومه، ولذا أصبح منهج علي في السياسية والحكم واضحًا فقد كان يتحدث باستمرار عن منهجه السياسي والإداري مدافعاً عن القيم التي ينطلق منها في ترتيب مواقفه قائلاً:
والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت أدهى الناس، ولكن كل غدرة فجرة وكل فجرة كفرة ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة[2] ".
الاختلاف بين الأهداف يعكس أثره على الوسائل، فالأهداف السامية تحققها الوسائل السامية، والأهداف الرخيصة تستلزم السبل الرخيصة، والغاية النبيلة تطلب لها وسيلة شريفة وإذا كانت السياسة لعبة كما يقولون فلابد أن تكون بطريقة صحيحة: فلايجوز الغدر والخيانة ولا الكذب ولا ما يسمى بالنفاق السياسي، وهو ما يرفضه الإمام .
الاختلاف مع الآخرين لا يعطيني الحق في الكذب والافتراء عليه وهو منهج أسسه الإمام وعلى من ينتمي لعلي أن يسلكوا هذا الطريق في تعاطيهم مع من يختلف معهم، فمنهج الإمام الغاية لا تبرر الوسيلة، الحق طريقه الحق وليس يتأتى عبر الباطل!!
أن يكون التعامل قائماً على الصدق من غير التواء أو احتواء، بعيداً عن أساليب وألا عيب السياسة الدخيلة القذرة، التي تجعل السياسي صاحب وجهين أو أكثر، وهذا من أخلاق المنافقين. عندما اقترح البعض على الإمام العودة إلى السياسة القديمة في العطاء عن حسن نية رد الإمام مستنكراً: ”أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه؟ والله لا أطور به ما سمر مسير“ ثم يقول: ”لو كان المال لي لسويت بينهم فكيف وإنما المال مال الله“.
وبالرغم من إدراك الإمام إلى أن ذلك سوف يضعف مركزه السياسي إلا أنه كان يقول: ”ألا وإن إعطاء الماء في غير حقه تبذير وإسراف وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة ويكرمه في الناس ويهينه عند الله[3] “.
يظن البعض أن التمادى فى الباطل والبناء على المواقف الفاسدة والاستمرار دون التفات للأخطاء مصلحة لهم وحتى لا ينال منها المغرضون وهذا وهم كبير لأن الرجوع إلى الحق خير من التمادى فى الباطل. ويخطئ من يعتقد أن الممارسة السياسية ليس لها ضوابط أو أخلاق، فمنهج علي سبيل السياسي المتدين، ومن يتعدى منهجه يخطئ الطريق. ولا ينبغي أن نسمح للوسيلة أن تطغى على الغاية.
يظن البعض بان التقوى محلها فقط في العبادة والتعامل مع الخالق وضمن التعامل بين المؤمنين، ينبغي علينا ان نعي بان التقوى قاعدة كلية تنسحب على جميع مجالات الحياة الإنسانية،
فالسياسي الذين ينطلق من التقوى في تعاطيه مع واقعه المعيش وفي تعامله مع انداده وخصومة لن يطلب الحق عبر الباطل أبدا، بينما نجد من يبتعد عن التقوى في العمل السياسي والاجتماعي وينطلق عبر وسائل السياسة المختلفة والمختلطة ببعض الوسائل غير الأخلاقية نجده يقع فريسة لتلك الأدوات ويغرق في بحر الاعيبها فقد يكذب وقد يفتري وقد يفتعل القصص لتسقيط من يجده يختلف معه.
ولو نظرنا حياة الإمام علي لراينا كيف يجعل التقوى ركيزة العاملين الصادقين فهاهو يقول:
«واعلموا عباد الله: أن المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت، وأكلوها بأفضل ما أكلت، فحظوا من الدنيا بما حظي به المترفون، وأخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبرون، ثم انقلبوا عنها بالزاد المبلغ، والمتجر الرابح.
أصابوا لذة زهدة الدنيا في دنياهم، وتيقنوا أنهم جيران الله غداً في آخرتهم، لا ترد لهم دعوة، ولا ينقص لهم نصيب من لذة» [4] .
فهل نحن نسير على نهج علي ؟.