تأصيل الشعائر الحسينية (8)
بسم الله الرحمن الرحيم
يتطلع الكثير هذه الايام الى العجائب التي صاغتها يد الغيب في زيارة المولى ابي عبد الله الامام الحسين عليه السلام ، وكيف أن الملايين من المحبين والوالين لأهل بيت العصمة عليهم السلام يتركون الغالي والنفيس ويطلقون الدنيا وما حوته من ملذات في سبيل قضية الامام الحسين عليه السلام وهذه زيارة الاربعين المتألقة بألطاف يعجز اللسان والقلم عن وصفها ، بل ربما يستحيل حصر الكرامات التي تحصل ، وفنون الخدمات التي يتنافس الموالون لتقديمها لزوار الامام الحسين عليه السلام بحيث لا تتمالك من نزول دموعك وأنت ترى المشاهد التي تقدم لزوار الامام الحسين ، وهذا الشعب الموالي لأهل البيت من العراقيين وغيرهم قد ضربوا أروع الأمثلة في التنافس في خدمة الزائر والقصص في هذا لا يسعها هذا المقال ، ولا شك بأن الألطاف الربانية ونفحات الامام الحسين عليه السلام تشمل هذه الخدمة العظيمة لهم ، ونستطيع القول أن مثل هذه قد لا تحصل الا لمن يشاهدها بأم عينه ، ونكاد نجزم برجوع الزوار بنيل المطالب وقضاء الحوائج سواء كانت مادية دنيوية أو أخروية ، وبهذا نطقت بعض روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام ، كما قد مرّ عليك في بعض الحلقات السابقة ويوافيك في ما يأتي من رواياتهم عليهم السلام.
وأما شعيرة المشي لزيارة الامام الحسين عليه السلام فهي ثابتة في نصوص أخبار أهل البيت عليهم السلام ومما يؤكّد هذه الحقيقة الروايات الدالّة على استحباب المشي إلى زيارته (عليه السلام)والكاشفة عن مراتب عالية من الأجر والثواب ينالها الزائر في ذلك ، ومن الواضح أنّ المشي إلى الزيارة لا سيّما مع قطع المسافات الطويلة يشكّل تظاهرة جماهيرية حافلة تتضمّن الكثير من الدلالات الروحية والفكرية والسياسية في إحياء الشعائر .
ففي رواية ابن أبي فاختة عن الصادق (عليه السلام) : « إنّه من خرج من منزله يريد زيارة قبر الحسين بن علي (عليهما السلام) إن كان ماشياً كتب الله له بكلّ خطوة حسنة ، ومحا عنه سيّئة حتّى إذا صار في الحائر كتبه الله من المفلحين المنجحين ، حتّى إذا قضى مناسكه كتبه الله من الفائزين ، حتّى إذا أراد الانصراف أتاه ملك فقال له : إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقرئك السلام ، ويقول لك: استأنف العمل فقد غفر لك ما مضى »().
وفي رواية أبي الصامت عنه (عليه السلام) : « يكتب للماشي بكلّ خطوة الف حسنة ، ويمحى عنه الف سيّئة ، ويرفع له ألف درجة »().
وفي رواية بشير الدهّان عن الصادق (عليه السلام) : « أنّ الله سبحانه يناجي زائره (عليه السلام) ويقول : عبدي سلني أعطك ، ادعني أجِبْك ، أُطلب منّي أعطك ، سلني حاجة أقضها لك » قال : وقال أبو عبدالله (عليه السلام) : « وحقّ على الله أن يعطي ما بذل »() إلى غير ذلك ممّا هو كثير الفضل عظيم الأجر().
ويستفاد من بعض الأخبار أنّ المشي إلى زيارة الإمام الحسين (عليه السلام)ابتدأ في أوّل زيارة له بعد شهادته ، ففي الخبر أنّ جابر بن عبدالله الأنصاري جاء إليه مشياً ، وكان دليله عطية العوفي ، وذهب بعض الأعلام إلى أنّه مشى من المدينة إلى كربلاء ووصل في الأربعين().
وربّما يستفاد من قول سيّد الشهداء (عليه السلام) في يوم عاشوراء حينما دعا بني أُميّة إلى الرجوع إلى جابر وأبي سعيد الخدري وسهل الساعدي وأنس ابن مالك في معرفة فضل الحسين (عليه السلام) ومقامه الذي أشاد به رسول الله(صلى الله عليه وآله)() أنّهم كانوا في العراق ، بحيث يتمكّن بنو أُميّة وأتباعهم الوصول إليهم والسؤال منهم لو أرادوا ذلك ، وعلى كلّ تقدير فإنّ مراسم المشي في الزيارة لم تكن تأسيساً جديداً، بل متوغّلة في عمق الأيّام والزمن ومنذ حدوث الواقعة .
ويؤكّده ما ذكره السيّد ابن طاووس (قدس سره) في أواخر كتاب اللهوف عن أوّل زيارة جماعية ضمّت الكثير من الموالين وبني هاشم ، وجماعة من المواليات من أهل المنطقة بعد الشهادة ، حيث قال : ولمّا رجع نساء الحسين(عليه السلام)وعياله من الشام وبلغوا العراق قالوا للدليل مر بنا على طريق كربلاء، فوصلوا إلى موضع المصرع فوجدوا جابر بن عبدالله الأنصاري (رحمه الله)وجماعة من بني هاشم ورجالا من آل الرسول (صلى الله عليه وآله) قد وردوا لزيارة قبر الحسين (عليه السلام) ، فوافوا في وقت واحد ، وتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم ، وأقاموا المآتم المقرحة للأكباد ، واجتمعت إليهم نساء ذلك السواد ، فأقاموا على ذلك أيّاماً().
وقال أبو إسحاق الاسفراييني أنّ جماعة من أهل المدينة وافوهم في الزيارة ، وأقاموا بالبكاء والحزن حتّى ضجّت الأرض().
والتعبير (بضجّت الأرض) يشير إلى وجود أعداد متزايدة من الحضور ، وأنّ مراسم الحزن والعزاء كانت ضخمة عظيمة .
وتواتر المشي إلى زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) صار شعيرة من الشعائر واصلها أجلاّء الشيعة وعلماؤهم فضلا عن عموم الناس كما يستفاد من طائفة من الأخبار().
وقد ذكر عماد الدين الطبري الذي كان حيّاً في عام 698 هجرية أنّ زوّار الحسين (عليه السلام) ومراقد الأئمّة (عليهم السلام) في العراق بلغوا ثلاثمائة الف في تلك السنة()، وصار الناس يدخلون في التشيّع بالآلاف بشكل علني ظاهر()، وإذا قورن هذا بالقياس إلى عدد الساكنين في العراق والبلاد المجاورة آنذاك تكون الزيارة بحسب النسبة مليونية ضخمة .
وهم يتوجّهون إلى الزيارة في طول العام ; إذ ما من وقت إلاّ وهناك عدد كبير من الزائرين من جهات العالم الأربعة ما بين ذاهب إليه وعائد منه ومقيم لديه ، وعدّ هذا نوعاً من الإعجاز وخرق العادة أراده الله سبحانه في تعظيم أمر آل النبي (صلى الله عليه وآله) وإحياء ذكرهم في مقابل من خالفهم أو ناصبهم العداء().
وأمّا في هذه الأيّام فقد شهد القاصي والداني أنّ الزيارة صارت مليونية لم يشهد لها العالم مثيلا ، وتتجلّى فيها عظمة حبّ الإمام الحسين(عليه السلام)، وتظهر فيها الكثير من المعاجز والكرامات بما يعجز عن وصفه اللسان أو يحصيه البيان .
نسأل الله سبحانه أن يوفّق المؤمنين لزيارة الإمام الحسين خصوصا هذه الايام في زيارة الأربعين العظيمة ، والوقوف في خدمته ونصرته وإحياء شعائره ، وأن يجعلنا منهم وفيهم ، ويثبتنا على ولايت أهل البيت عليهم السلام .