الجزع بين المعصومين (ع) وشيعة الاستحسان
قال تعالى حاكيًا قصة جزع نبيه يعقوب على فراق ابنه يوسف : ﴿وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾(1).
وعن الإمام الصادق: "إن البكاء والجزع مكروه للعبد في كل ما جزع ما خلا البكاء والجزع على الحسين بن علي فإنه فيه مأجور"(2)، والجزع هو نقيض الصبر (3).
لقد شاعت في الآونة الأخيرة دعوات لتشذيب وعقلنة الشعائر الدينية والحسينية خصوصًا وحصرها بالممارسات الهادئة ورمي كثير من الشعائر التي تبرز فيها صور الجزع والحرارة والهيجان بأنها تغييب للعقل الشيعي وخرافة وتخلف وتشويه للدين والمذهب وغيرها من التهم التي يلاحظ وبكل وضوحأنها لا تعتمد على الأدلة الشرعية والقواعد الثابتة في الفقه الجعفري بل تعتمدعلى الاستحسانات والأذواق والرأي والقياس والاجتهاد مقابل النصوجميعهاأدوات حرمها أهل البيت وشددوا على حرمة العمل وفق نتائجها إمامًا من بعد إمام في ظاهرة لا تتكرر كثيرًا في رواياتهم وذلك لفظاعة مغالطاتها العلمية وكارثية الاستنتاجات التي تؤدي إليها، ولهذا اتفق فقهاء الشيعةعلى تحريمهاللنهي المشدد القطعي عن أئمتهم.
ولعل هذا الركون للأدوات المحرمة في الاستدلال حتى من قبل بعض المعممين ربما يرجع إلى عجزهم وفشلهم في إثبات وجهة نظرهم في الميدان الفقهي حيث أن النصوص الثابتة والقواعد العلمية المتفق عليها أدت إلى اتفاق كلمة الفقهاء المجمع على علمهم وعدالتهم على عدم صوابية ما ذهب له هؤلاء، فركنوا إلى أدوات استدلال هي محرمة في ذاتها أصلاً لتصوير وجهة نظرهم للعوام بأنها منطقية بينما بقليل من التدقيق والتأمل نكتشف تناقضها مع العقل والمنطق السليم الممزوج بشيء من الثقافة والعلم فضلاً عن الشرع.
فنقول أولاً: أنه لا تعارض بين الحزن والجزع وبين الاستفادة واستخلاص العِبَر من كربلاء، فلا أحد يقول بذلك، فمن يمارس الشعائر لا يمكن وصفه بأنه منعدم الثقافة هذا من جانب، ومن جانب آخر إن ممارسته هذه تعزز الرابطة بينه وبين أهل البيت وتسهم العاطفة في زيادة انفتاحه الفكري على عاشوراء - كما ملحوظ حتى بالنسبة لمن لا ينتمون لهذا الدين-وهذان العاملان يزيدان من فرصة استفادتهمن هؤلاء العظماء الذين أذهلوا العالم والحضارات في شتى مجالات العلم والمعرفة والجهاد.
فعلينا أن نحرص أن لا يتحول التركيز على أخذ العِبرةإلى تجريد عاشوراء من عاملها الأقوى وهو الجانب العاطفي الذي يحرك الجميع حتى ممن لا يؤثر فيهم جانب العِبرة المجردة، فتجريد عاشوراء من أحد أبرز عوامل قوتهاوإن كان بغطاء الدين والثقافة والتحضر هو في الحقيقة ضيق أفق وقصر نظر ومحدودية فكر.
يقول المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيد علي السيستاني (دام ظله): "لابد من ذكر مصائب الإمام الحسين على النحو المناسب الذي يؤثر في عواطف الناس لأن لذلك تأثيرًا كبيرًا على خلاف من يتوهم بتقليل قيمة الجانب العاطفي"(4).ويقول المرجع الديني سماحة آية الله العظمى الشيخ حسين الوحيد الخراساني (دام ظله): "مهما بلغت طرق العزاء، فلا تتوقعوا بأنها تتناسب مع المصيبة. لو احترقت الدنيا لهذا المصاب فلن تبلغ عظم المصيبة"(5).
وثانيًا: إن من أهم أغراض الشعائر هو لفت الأنظار للقضية وهز الوجدان الإنساني من أعماقه ليتخذ موقفًا شجاعًا في صفوف ثورة الحق على الباطل في كل زمان ومكان، وإطفاء هذا الوهج والحرارة والاكتفاء بالممارسات الباردة عاطفيًا هو منافٍ لغرض رئيس للشعائر ومخالف للعقل في هذه الحالة، بل قد يؤدي ذلك على المدى الطويل إلى إخماد شعلة الثورة الحسينية التي ما زالت تثير الجماهير كل عام ويحولها إلى مجرد قصة تاريخية درامية كغيرها من قصص التاريخ.
إنالجزع هو صورة من صور النصرة حيث يمثل وسيلة إعلامية قوية التأثير في خدمة القضية -هذا بالإضافة إلى عظم المصيبة بحد ذاتها-،فكما ورد في زيارة الناحية المقدسة: "فلئن أخرتني الدهور، وعاقني عن نصرك المقدور، ولم أكن لمن حاربك محاربًا، ولمن نصب لك العداوة مناصبًا، فلأندبنك صباحًا ومساءً، ولأبكين عليك بدل الدموع دمًا حسرة عليك، وتأسفًا على ما دهاك، وتلهُّفًا حتى أموت بلوعة المصاب وغصة الاكتئاب" (6).
وثالثًا:إن الحق والعدل لا ينتزع من العتاة والجبابرة على أرض الواقع بالهدوء والبرود بلبالثورة والفورة، وإذا علمنا بأن رسالة شعائر الجزع هي محاربة الطغيان والباطل ونصرة الحق والعدل، فهل يزجر ويؤمر بالهدوء من يؤلب الرأي العام على من يقتل العدالة في الماضي والحاضر،أم يساندهويعاضدهالعقلاء في ذلك؟!
أليس هذا التأليب ولفت الأنظار هو من فعل المثقف الواعي الذييدرك سنن الحياة وتواريخ الأمم وعلوم السياسة والنفس والاجتماع؟
ورابعًا:فلنرجع للقرآنولسنة وسيرة الرسول الأعظم وأئمة أهل البيت –في مصادر السنة والشيعة، وإن كنا سنركز هنا على المصادر الشيعية لأن الخطاب موجه لبعض من ينتسب لهم مع ورود الكثير من الروايات المشابهة في كتب السنة أيضًا-، ولننظر كيف كانت أوامرهم وممارستهم للجزع في أعلى مستوياته وبمختلف طرقه، ولننظر هل ورد عنهم ولو في حالة واحدة نهي عن أي مظهر من مظاهر الجزع أو أنهم وصفوه بأنه غير لائق أو متخلف أو خرافي أو منفر للناس أو ما شابه؟!
ولو عرضنا ممارساتهم وأقوالهم على قواعد هؤلاء المطالبين بما يعتقدون خطأً بأنه عقلنة ومنطق وتحضر، فسنجد أن كل الاتهامات التي يكيلونها للمؤمنين اليوم تنطبق تمام الانطباق على أئمة الهدى - كما سنوضح فيما يلي لبعض الجوانب فقط رومًا للاختصار ونتجاوز بعض المواضع الخلافية التي تحتاج لتفصيل أكبر لا يسعه المقام-،فهل تكونأقلامهم وعمائمهم أكثر حرصًا وإدراكًا لما هو أنسب لمصلحة الإسلام وصورته من الله وخلفائه المعصومين ؟!
- أشعثًا أغبرًا:
عن ابن عباس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه]وآله[ وسلم فيما يرى النائم بنصف النهار أغبر أشعث وبيده قارورة فيها دم، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما هذا؟ قال: هذا دم الحسينوأصحابه لم أزل منذ اليوم التقطه. فأحصي ذلك اليوم فوجدوه قتل يومئذ(7).
وهو يوافق ما ورد عن أبي عبد الله أنه قال: "إذا أردت زيارة الحسين فزره وأنت كئيب حزين مكروب، شعث مغبر، جائع عطشان، فإن الحسين قتل حزينًا مكروبًا شعثًا مغبرًا جائعًا عطشانًا" (8).
- الصراخ والضجة العالية:
في دعاء الندبة الذي يعرفه جميع الشيعة من أصغر طفل وحتى أعظم فقيه ويعارضهصراحة هؤلاء المطالبون المدعون للعلم والثقافة: "فعلى الأطائب من أهل بيت محمد وعلي صلى الله عليهما وآلهما فليبك الباكون، وإياهم فليندب النادبون، ولمثلهم فلتذرف الدموع، وليصرخ الصارخون، ويضج الضاجون، ويعج العاجون... هل من جزوع فأساعد جزعه إذا خلا؟ هل قذيت عين فساعدتها عيني على القذى؟" (9).
وورد عن الصادق : "اللهم ... ارحم تلك الصرخة التي كانت لنا" (10)، وغيرها الكثير الكثير.
ولذلك يقول المرجع الدني سماحة آية الله العظمى الشيخ حسين الوحيد الخراساني (دام ظله): "هؤلاء الجهلة يتفوهون بالخزعبلات حينما يقولون: لا تعلوا صوتكم بالبكاء..الحديث هو هذا الحديث.. الفقيه هو النائيني الفقيه هو البروجردي الفقيه هو الحائري، هؤلاء هم الفقهاء وهم يقولون: الطموا، اضربوا السلاسل وإن سالت الدماء فلتسل، هذا هو الفقيه وهذه هي الفقاهة.. ابكي بصمت! ما هذه الخزعبلات التي يقولونها؟! المحقق النائيني وهو ذلك الفحل... فحل كهذا يقول اللطم وضرب السلاسل لسيد الشهداء وإن ترتب على ذلك نزف الدماء، وبعد إصداره هذه الفتوى أيده أعاظم المذهب وأكابر الدين مثل السيد محسن الحكيم صاحب المستمسك أو مثل الفقيه الشاهرودي..." (11).
- الإغماء:
لقد ورد عن سيدتنا الزهراء أنها عندما كانت تسمع بلالاً ينادي باسم رسول الله في الأذان أنها كانت تشهق وتسقط لوجهها، ويغشى عليها حتى يظن الناس أنها ماتت (12).
وكذلك ورد أنه لما أنشد دعبل الخزاعي قصيدته المشهورة (مدارس آيات) أمام الإمام الرضا لطمت النساء،وعلا الصراخ من وراء الستر، وبكى الرضا بكاء شديدًا حتى أغمي عليه مرتين (13)، ولم يمتنع عن البكاء أو يرفع المجلس بعد إغمائه الأول ولم يعتبره من إيذاء النفس المحرم ولم يفعل ذلك حتى بعد إغمائه الثاني. ثم إن هذه الحادثة تحتوي على رفع لصوت النساء بالبكاء وعلى تأكيد للطم السيدة الزهراء لخدها على الحسين لو رأته مجدَّلاً ولم ينكر عليه المعصوم ذلك بذريعة وقار وعظمة السيدة أو بأن ذلك مما ينفر أو من الإيذاء المحرم للنفس ولا فائدة ترجى منه وما شابه.
- الجَود بالنفس:
كما قال أبناء يعقوب لأبيهم لشدة جزعه وحزنه: ﴿تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ﴾ (14)، فكذلك إمامنا زين العابدين يصف حاله حين المسير من كربلاء مع السبايا: "...فكادت نفسي تخرج، وتبيّنت ذلك مني عمتي زينب ، فقالت: مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي وأخوتي؟ فقلت: وكيف لا أجزع ولا أهلع..." (15).
- البكاء الشديد "المؤذي":
قال الإمام الرضا : "إن يوم الحسين أقرح جفوننا" (16)، ولعل من ضمنالأدلة التي تشير إلى أن هذا الحديث وما ورد في زيارة الناحية المقدسة من البكاء دمًا ليس تعبيرًا مجازيًا فقط بل هو حقيقي أيضًا هو ما ورد أن الإمام زين العابدين بكى على أبيه حتى خافوا عليه من العمى، وكان كلما أتي بماء بكى حتى جرت عيونه دمًا؛ لأنها كانت مجروحة من كثرة البكاء (17).
وعن الصادق : "لما قتل الحسين أقامت امرأته الكلبية –الرباب- عليه مأتمًا، وبكت وبكين النساء والخدم حتى جفت دموعهن وذهبت" (18)، وكل ذلك بإقرار الإمام السجاد ولم ينههم بأن ذلك من إيذاء النفس ولا فائدة منه.
- التباكي:
عن الإمام الصادق : "...ومن أنشد في الحسين فتباكى فله الجنة" (19).
- خمش الوجوه ولطم الخدود وشق الجيوب:
لما وصل بشر بن حذلم إلى المدينة لإخبار الناس بمقتل الإمام الحسين –كما أمره مولانا علي بن الحسين - ما بقيت في المدينة مخدّرة ولا محجوبة إلا برزن من خدورهن...مخمشة وجوههن، ضاربات خدودهن (20)، ولم نسمع أن الإمام نهاهم بعد ذلك أو عاتبهم، فإقراره حجة، ولا يخفى أن خمش الوجوه يلازمه إسالة الدماء.
وعن أبي عبد الله: "...ولقد شققن الجيوب ولطمن الخدود الفاطميات على الإمام الحسين بن علي ، وعلى مثله تلطم الخدود وتشق الجيوب" (21).
- بلا سقف ولا ظل:
نقلت التواريخ أن السيدة الرباب زوجة الإمام الحسين عاشت بعده سنة لم يظلها سقف بيت حتى بليت وماتت كمدًا (22)، ولم ينكر عليها معصوم هذا الفعل ولم يتساءل عن الفائدة منه، فالفائدة معروفة للواعي وهي لفت الأنظار للقضية الحسينية التي تمثل كل معاني الحق والعدل والثورة على الظلم والطغيان والإنكار والتأليب عليه بكل الوسائل المشروعة وإبقاء شعلة هذه الثورة مشتعلة في النفوس عبر القرون والأعصار.