تأصيل الشعائر الحسينية (6)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحلقة السادسة : شعائر الامام الحسين استثناء في استثناء الجزع مثال.

مما لا ريب فيه أن شعائر الامام الحسين عليه السلام تعتبر هي ركيزة مهمة لمعالم المذهب ، وباستشهاده استقام الدين كما قال عليه السلام : " إن كان دينُ محمد لم يستقم إلا بقتلي ، فيا سيوفُ خُذيني " وباستشهاده عليه السلام تعرّت كل شعارات الزيف التي حملها بنو أُمية لطمس معالم الدين المحمدي الأصيل .

ومن أبرز شعائر الامام الحسين عليه السلام بلا ادنى شك هو البكاء على مصيبته العظيمة التي اهتزّ لها عرش الجليل ، ويعتبر البكاء من عمدة أقسام الشعائر الحسينيّة - كما في كلمات الفقهاء والمحقّقين والمؤرّخين - بل نستطيع أن نسمّيه الشريان  للعديد من الأقسام في الشعائر الحسينيّة،  فحينما تنظر مثلا إلى الخطابة ، أو إلى الشعر أو النثر أو الرثاء ، أو التمثيل - الشبيه - أو تنظر إلى اللطم والعزاء أو لبس السواد ، فإنّ كلّ هذه الظواهر المختلفة من الشعائر الحسينيّة ، فإن بلوغ ذروتها تصل إلى حدّ البكاء .

ولا يمكن لأي شخص يوالي أهل البيت عليهم السلام أن ينكر هذه الحقيقة ؛ وذلك لوجود الاهتمام الكبير بالبكاء الذي نشأ من توصية الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام من خلال الحثّ الأكيد والتوجيه الشديد إليه . . وقد اعتدّ به علماء الإماميّة ، سواء المحدّثون أو المؤرّخون أو الفقهاء في فتاواهم المتعلّقة بالشعائر الحسينيّة ، حيث يبرز البكاء عندهم الركيزة العظيمة للشعائر الحسينيّة المقدّسة ، وما ذهب إليه فقهاء الإماميّة أو بقيّة أصناف علماء الإماميّة ليس هو فقط كفتاوى مسلّمة ، وإنّما هو ما تشير إليه الأبواب العديدة الواردة في الشعائر الحسينيّة . . وهو أنّ البكاء هو عمدة ولُب الشعائر الحسينيّة . . وليس فقط قسماً من أقسام الشعائر الحسينيّة ، بل هو لبّ الشعائر الحسينيّة وأهمّها .

والروايات التي تحثّ على البكاء وتبيّن فضيلته ليست هي فقط تلك الأبواب التي عُقِدت تحت عنوان « فضل البكاء وثواب البكاء على سيّد الشهداء عليه السلام » بل كلّ الأبواب التي وردت حوله تشير بأدنى مناسبة للبكاء . . إمّا بلفظ البكاء أو بما يرادفها أو يلازمها وبإشارات مختلفة . . حتّى أنّ بعض المتتبّعين ممّن له باع واسع في هذا التحقيق ذكر أنّه ورد في ما يلازم ويرادف البكاء ما يقرب من خمسين لفظة حول الشعائر الحسينيّة ، مثل : اللَطْم ، أو اللّدم ، القلق ، الهلع ، الجزع ، البكاء ، النوح ، الندبة ، الصيحة ، الصرخة ، الحزن ، التفجّع ، التألّم ، وغيرها . .

وأيضاً هناك إشارات أخرى في كيفيّة التركيز على البكاء ، وأنّه من عمدة أبواب الشعائر الحسينيّة كذلك ما ذُكر في تاريخ الحسين عليه السلام - التاريخ الروائي - مضافاً لكتب التاريخ المختلفة ، وكثير منها عن طريق مصادر العامّة ، مثل تاريخ ابن عساكر ، وتاريخ الخطيب البغدادي وغيرها . . وكلّها تذكر البكاء على سيّد الشهداء عليه السلام ; حتّى الأنبياء قد بَكوه قبل ولادته ، بل قبل ولادة النبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم .

وتذكر أبواب عديدة في هذا السياق ، مثل : بكاء أنواع المخلوقات . . ويبيّن مجموع الروايات في الأبواب العديدة جزع وبكاء الخِلقة بأكملها على مصيبة سيّد الشهداء عليه السلام . .

فقضيّة كون البكاء هو العمدة في الشعائر الحسينيّة يكاد يكون أمراً واضحاً ; بل نترقى في التعبير ونقول : بأنّ البكاء هو جوهر وروح الشعائر الحسينية.    وبحسب الأدلّة الواردة فإنّنا لو كنّا وظاهر الأدلّة فقط ، لرأينا أنّ للبكاء مكانةً وأهميّةً يتفرّد بها من بين أقسام الشعائر الحسينيّة الأخرى . . فالبكاء كالجوهر والروح لأقسام الشعائر الحسينيّة ، وكأنّما إلغاء البكاء عن الشعيرة الحسينيّة هو عبارة عن تخليته عن جوهره ، ومسخ لتلك الشعائر عن حقيقتها ، وما يتداول في الآونة الأخير من اقتصار البكاء على أيام محدودة أو على خفض الصوت في البكاء على سيد الشهداء إنما هو خلاف ظاهر الأدلة المسلّمة لدى الفقهاء ، فلا مجال للإصغاء لهذا الكلام الخالي عن الدليل ، بل هو خلاف صريح وصارخ لدعاء الامام الصادق عليه السلام في الرواية السادسة التي سوف توافيك : " ... وارحَم الصرخة التي كانت لنا "  وهو اشبه بالاستحسان الشخصي لا قيمة له علمياً.

وبما أن قضية الامام الحسين عليه السلام هي قضية استثناء في استثناء فكيفينا النظر في الروايات الشريفة الواردة في هذا الباب لنتبصر بما قاله أئمة الهدى عليهم السلام ، ومن استثناءات شعائر الامام الحسين عليه السلام هو الجزع في الشعائر الحسينيّة.

والجزع غير الحزن وغير البكاء . . إذ أنّ الجزع في اللغة هو شدّة الحزن وعدم التصبّر ، أو هو نوع من إبداء التفجّع الشديد ، بشقّ الجيب ونتف الشعر وضرب الرأس ، وخمش الوجوه ، أو الصراخ الشديد . وهذه كلّها تعبيرات عن معنى الجزع باللازم ، وإلاّ فإنّ معنى الجزع : هو إظهار المرء للألم الشديد عند الحزن بصخب وتفاعل ساخن ، هذا هو الجزع الذي وردت فيه روايات ; وقد عثرنا على ما يزيد على عشرين رواية واردة في الجزع فقط . وعدّة من أسانيدها صحيحة ; منها :

1 - ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام « كلُّ الجزع والبكاء مكروه ، ما خلا الجزع والبكاء لقتل الحسين عليه السلام » [1].وهي صريحة باستثناء الجزع لمصيبة الامام الحسين عليه السلام.

2 - وما نقله صاحب الوسائل عن جعفر بن قولويه في المزار ، بسنده عن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة ، عن أبيه ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : سمعته يقول: « إنّ البكاءَ والجزع مكروهٌ للعبد في كلّ ما جَزِع ، ما خلا البكاء على الحسين بن عليّ عليه السلام فإنّه فيه مأجور » [2].

3 - وعن مسمع بن عبد الملك ، قال : قال لي أبو عبد الله عليه السلام في حديث : أما تذكر ما صُنع به ( يعنى بالحسين عليه السلام ) ؟ قلت : بلى . قال : أتجزع ؟

قلت : إي والله ، وأستعبر بذلك حتّى يرى أهلي أثَر ذلك عليّ ، فأمتنع من الطعام حتى يتبين ذلك من وجهي . فقال : رحم اللهُ دمعتك ، أما إنّك من الّذين يُعدّون من أهل الجزع لنا، والذين يفرحون لفرحنا ، و يحزنون لحزننا ، أما إنّك سترى عند موتِك حضورَ آبائي لك... » [3].

4 - نقل في الوسائل عن مصباح الشيخ الطوسيّ ، بسنده عن علقمة ، عن أبي جعفر عليه السلام ، في حديث زيارة الحسين عليه السلام يوم عاشوراء من قرب وبعد ، قال : « ثمّ ليندُبِ الحسين عليه السلام ويبكيه ويأمر مَن في داره مِمَّن لا يتّقيه بالبُكاء عليه ، ويقيم في داره المصيبة بإظهار الجَزَع عليه ، وليُعزِّ بعضُهم بعضاً بمصابهم بالحسين عليه السلام . . . » [4].

5 - ما نقله صاحب مستدرك الوسائل عن نهج البلاغة ; قال عليّ أمير المؤمنين عليه السلام على قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساعة دُفِن : « إنّ الصبرَ لَجميلٌ إلاّ عنك ، وإنّ الجَزع لقبيحٌ إلاّ عليك » [5].

6 - وفي صحيحة معاوية بن وهب نقلا عن باب المزار في الوسائل ، دعاء الامام الصادق عليه السلام بهذا التعبير : « ... فارحَمْ تلكَ الوُجوه الّتي قد غيّرتها الشمسُ ، وارحَم تلك الخُدود التي تقلّبت على حُفرة أبي عبد الله عليه السلام ، وارحَم تلك الأعين التي جَرت دموعُها رَحمةً لنا ، وارحَم تلك القلوب التي جَزَعت واحتَرقت لنا، وارحَم الصرخة التي كانت لنا . . . » [6] .

فهذه مجموعة من الروايات الشريفة طُرقها عديدة وصحيحة ، وبعضها موثّق . . فإذن الجزع هو إشارة من إشارات البكاء .

ونظير هذا التعدّد في الطرق لهذه الطائفة من الروايات نجده في الكتب الأربعة أيضاً ، في كتاب التهذيب للشيخ الطوسيّ ، وكتاب الفقيه للشيخ الصدوق ، وكتاب الكافي للشيخ الكُلينيّ التي هي من أهمّ مصادرنا . .

فالحاصل أنّ البكاء في الشعائر الحسينية هو جوهر الشعائر ، ومن مراتب البكاء الجزع لمصيبة ابي عبدالله الحسين عليه السلام ، الذي هو استثناء .

وكنظرة أوّليّة في الروايات أو في فتاوي العلماء ، يظهر أنّ الحزن لا ينقضي إلاّ بظهور الإمام الثاني عشر عجّل الله تعالى فرجه الشريف . . والأخذ بثأر الدماء التي أريقت في كربلاء مع الحسين عليه السلام وتطبيق أهداف الأئمّة عليهم السلام. وبذلك نصل إلى صلاح البشريّة وانتشار القسط والعدل ، وتحقيق أغراض وأهداف مسيرة الأنبياء ، وهذا نوع من الثأر الشريف المنشود لدم الحسين عليه السلام .

والذي يظهر - حول بحث البكاء - من كلمات علماء الإماميّة - من فقهاء ومتكلّمين ومفسّرين ومحدّثين ومؤرّخين ، ومن الروايات أيضاً - أمران :

1 - كون البكاء الدعامة الأصليّة في الشعائر الحسينيّة . .

2 - استمرار البكاء وتأبيده إلى يوم الثأر . [7]

جعلنا الله وإياكم من الطالبين بدم المقتول بكربلاء ، تحت لواء صاحب الأمر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف.

[1] ـ وسائل الشيعة : 14 : 505 : باب استحباب البكاء لقتل الحسين عليه السلام ; بحار الأنوار : 44 : 280 / ح 9 عن الصادق عليه السلام : « كلّ الجزع والبكاء مكروه سوى الجزع والبكاء على الحسين عليه السلام » .
[2] ـ وسائل الشيعة 14 : 506 .
[3] ـ وسائل الشيعة 14 : 507 ; 10 : 396 .
[4] ـ وسائل الشيعة 14 : 509 .
[5] ـ مستدرك الوسائل 2 : 445 .
[6] ـ وسائل الشيعة 14 : 411 - باب 37 من أبواب المزار ، نقلا عن الكافي 4 : 583 .
[7] ـ الشعائر الحسينية بين الأصالة والتجديد ج1 ص 257 ، مع اضافات وتعليق وتوضيح .
طالب علم