الحسن والحسين (ع) ... هل يلتقيان؟!
خلفت لنا #كربلاء المقدسة أسئلة كبرى، حول الأئمة الأطهار ، وحول السياسة والموقف منها، وحول الحياة وقيمتها لنا نحن المسلمون الشيعة، ثم للإنسانية التي سنقدم أئمة أهل البيت لها، وحول ما يمكن أن يستلهم من الأئمة كمنهج وعقيدة ومسار حياة ... الخ. وربما يعجز معظمنا هنا عند تلك الأسئلة، عن الإجابة عليها، إلا بإجابات كلاسيكية سطحية متداولة. وهنا يبرز السؤال، ما هي تلك الأسئلة؟!.
وللنفاذ لذلك، فإن أول سؤالٍ جوهريٍ، من تلك الأسئلة التي تطرح نفسها على الشيعة هنا، والتي يمكن إن يجيب عليها الكثيرون بإجابات قشرية سطحية، هو ذلك السؤال الذي يقول: ما هي مواقفنا السياسية الدينية التي نستلهمها من أهل البيت ، فهل نثور كما ثار الإمام الحسين ، أم نعاهد ونصالح ونصمت كما صمت الإمام الحسن ؟!.
وكيف يمكن أن نجمع بين هذين النهجين المتناقضين ظاهرياً، حيث الثورة أمام كل شكلٍ من أشكال الظلم، وعدم الإكتراث بالقوانين الطبيعية وتوازنات القوى مهما كان الأمر، وتفضيل الآخرة على الدنيا، من جهة، هو ما نتعلمه من ثورة الإمام الحسين ، وهو هنا ما يوحي البعض أنه هو ما فعله الإمام ، ونحن ننزهه عليه السلام عن ذلك، ومن الجهة الأخرى، نجد تقديم اعتبار موازين القوى وحسابات المصلحة والتدرج نحو الهدف والإعتراف بما تتطلبه السياسة وخطط المرحلة والإلتزام بما تفرضه البراجماتية الواقعية، تكون هي القواعد التي يمكن أن نستلهمها ونعتمدها لحياتنا السياسية والدينية، كما فعل ذلك الإمام الحسن ؟!.
فهل نحن إذاً، ثوريون كالحسين ، نحيي قضايانا بالدم، ونستبدل الآخرة بالدنيا؟! أم أننا (قاعدون براجماتيون) كالحسن ؟! وذلك طبعاً في ظل حسابات المصالح الواقعية، وعند خذلان الناصر وضعف كفتنا، أي عندما تقل قوتنا في ميزان القوى الإجتماعية والسياسية والحياتية؟!
وهل يا ترى يمكن أن يلتقي الحسن والحسين (عليهما السلام) في نهجهما، في شخصياتنا، وهما هكذا؟! أم أنهما مفترقان حقيقةً ومتناقضان، وإلى الأبد؟!
وكيف يا ترى يمكن أن نتصرف في عالم السياسة المعاصرة؟! التي تغولت فيها الدول وقوتها اليوم، حتى باتت الثورية والإنقلابات المسلحة وما شابهها، من موروثات الماضي، وأداة من أدواته الفاشلة غالباً في هذا العصر؟!، فهل ننسجم مع أدوات السياسة المعاصرة ونفهمها، بمثل ما قد نتعلمه من الحسن ؟!، أم نثور ضدها وضد توازناتها، بمثل ما قد نتعلمه من الحسين ؟!، رغم تحول طبيعة الدول من الطبيعة الجبائية، التي غلبت في الماضي، وحين ثار الحسين ، إلى الطبيعة الخدمية، التي غلبت في العصور الحديثة، على كل أشكال الدول رغم تنوعها؟!!.
كيف نحيا بالحسين ؟! وكيف نحيا بالحسن ؟! وهل في حياتنا مساحة كافية للحياة ولحفظ الدماء في ظل حكم غير الله وغير قيم السماء، لنكون كمن حفظ دماءهم الإمام الحسن في غير حكمه؟! أم أن هناك مساحة فقط للدماء وللتضحية بها، وللنياحة والبكاء واللطم واجترار المظلومية أمام الظلم المتفشي في هذه الحياة، لتكون النياحة واجترار المظلومية هي طقوسنا وحياتنا، في كل يوم وفي كل أرض وفي كل عام، وليكون نشر السواد فقط وفقط هو ما نرتضيه وما نتقنه في كل هذا العالم، بدعوى أن ذلك هو ما يرضي الحسين ، لا غير؟!.
أين نقف نحن في هذا العالم؟! وكيف نتحرك؟! وكيف نفهم أن الأئمة : (تعدد أدوار ووحدة هدف) و(بناء حياة)، رغم أننا لا نتقن تطبيق تعدد تلك الأدوار ووحدة ذلك الهدف، ولا نتقن بناء تلك الحياة، كما يبدو؟!.
وإذا كنا ننطلق هنا من أن الهدف هو الآخرة فقط، دون أدنى أهمية لما يجري في هذه الحياة الدنيا، من حضارة وعمران ونهضة وسعادة وبناء وعمارة للأرض وما عليها ... الخ، كما يتصور ذلك البعض، فحينها حتى لو دمر كل شيء وفق تعاليم دينية، أو تعاليم حقيقةً يدَّعى أنها دينية، فسيزول كل إشكال (ديني/سطحي)، وكل تناقضٍ عبادي، بين تعدد الأدوار ووحدة الهدف، أمام أنظار البعض. فالإمام وأياً كان، ونائبه من بعده أياً يكن، إنما يأمر فيطاع، وفق رؤية وفلسفة غيبية تقع خارج دائرة الزمان والمكان والمنطق وخارج دائرة فهم الإنسان وحياته، وبطاعة الإنسان تلك يمكننا هنا أن نتحصل الثواب والجنة، فلا تهمنا حينها هنا الأرض ومن عليها وما فيها بكل ما فيها، أبداً. لأننا نكون قد تحصلنا حينها على ما هو جوهري مرتبطٍ بالله، وما هو أهم وأعظم من ذلك النفع الدنيوي كله، ومن الأرض وما عليها، التي يجب أن نزهد فيها، وننسى نصيبنا منها!!.
لكن هذا الجواب بالطبع، لا يرتضيه عاقل، يؤمن بأن الدين قد جاء واقعاً للعقلاء من البشر، وليقيم الحياة لا لينهيها أو ليدمرها، وجاء لمن يؤمن بأن الإنسان في هذا الدين محاسب ومكلفٌ بسبب إمتلاكه لملكة العقل، التي كرم وكلف بسبب إمتلاكه لها، والتي تعد بوصلة الإنسان نحو الدين واختياره، وسبب هداية الإنسان في الحياة، وطريق نجاته، وهي ميزان حسابه في الحياة الدنيا، وميزان حسابه في الحياة الآخرة، أيضاً.
وهنا بعد فشل المحاولة القشرية السابقة، فكيف يمكن الجمع بين دور الإمام الحسين ، ودور الإمام الحسن ، بشكلٍ براجماتي منطقي، يزيل كل الإلتباسات، وكل التساؤلات؟!.
في الواقع فإن التركيز خلافاً للمنطق، على الشعائر والطقوس والأوامر والنواهي الدينية بشكلٍ مغلوط، والنظر فقط للآخرة بعينٍ حولاء، هو ما يفرغ الدين من محتواه الحقيقي، ليظهر لنا محتواه كمحتواً قشريٍ.
لقد بعث الرسل والأنبياء ، وجاء الأئمة عليهم السلام، واقعاً، للإنسانية من أجل الإنسان. أي لأجل إنقاذه، دنياً وآخرة. وهنا فلا يمكن فصل الرسالات والأهداف السماوية عن الإنسان نفسه الذي خوطب بالرسالة، ولا حصر تلك الرسالات العظيمة في أفق ضيق، يلغي العقل والمنطق. كما لا يمكن فصل الآخرة عن الدنيا، ولا الدنيا عن الآخرة أيضاً. لأن إصلاح الآخرة لا يمكن واقعاً في بعده العام أن يتم، إلا عبر بوابات إصلاح الحياة، التي تصلح بالتالي الإنسان الفرد بإصلاح مجتمعه وما حوله، حيث أن إفساد المجتمع وما حول الإنسان يؤدي غالباً لإفساد الفرد وتدميره، بلا شك.
وعندما يتم هنا الإجابة على الأسئلة السابقة، بالقول بأن هدف ودور كلٍ من الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام)، هو إنقاذ وبناء وإسعاد وإصلاح الإنسان وإصلاح حياته - حياته في الدنيا، وحياته في الآخرة -، وعمارة الأرض، وأن إصلاح حياة الإنسان في الآخرة، لا يمكن أبداً أن يكون بمعزلٍ عن إصلاح حياته في الدنيا، فهما صنوان لا ينفصلان. عند تقديم تلك الإجابة وفهمها، سيرتفع كل إشكالٍ (دينيٍ / دنيوي) من أمامنا.
فالأئمة عليهم السلام حقاً حينها، تعدد أدوار ووحدة هدف، في ظل هدفٍ واقعيٍ ومنطقيٍ واحدٍ من وجودهم وتعدد أدوارهم، وهو دائما إنقاذ الإنسان، كل الإنسان، وعمارة الأرض وما عليها، وصولاً لسعادة الإنسان في الآخرة، المبنية على سعادته وصلاحه وصلاح دنياه، التي تبدأ هنا في هذه الأرض في المرحلة الأولى.
ولذا فستجد تلك الأدوار تتنوع بين ظرفٍ وآخر وبيئة وأخرى، فهي الصلح تارة والثورة والخروج تارة أخرى ... الخ. والسبب هو أن الإنسان يحتاج ذلك التنوع لتحقيق أهدافه ومصالحه، ولبناء حضارته وحياته.
لقد حفظ الإمام الحسن بصلحه دماء ومصالح المسلمين، كما حفظها علي حين سكت عن موضوع الخلافة، وكان السكوت حينها هو الأولى والمحقق للمصلحة، وحفظ الإمام الحسين بخروجه قيم الأمة ومبادئها، وثار بعد قيام البينة بوجود الناصر، كما ثار وخرج علي ، فخرج ليصلح حياة الإنسان، ولينشيء دولة العدل، وليعيد دولة النبوة، في توقيتٍ لا بد فيه من السعي لرفع الظلم من الواقع، ولا بد فيه من السعي لتحقيق العدل ومصالح الناس، ولتحقيق الإزدهار والرفاه، في معادلات بدت في ظاهرها في أول الأمر، لصالح تلك الثورة بجميع أبعادها، حتى في جانبها المادي في حينه، ثم اتضح أنها - أي تلك الثورة - أحيت القيم، في موضعٍ أنتهى فيه الجسد. ولم يكن هناك في كلا الحالتين مشروعٌ إلا إنقاذ الإنسان والرقي بالحياة.
فإذا آمنا بهذا، خرجنا حينها من شكليات الدين، ومن قشرية وتناقضات فهمنا الضيق له. أما إذا أخرجنا الإنسان من صلب الموضوع الديني، ومن صلب تلك الإجابات، ومن صلب المعادلة الدينية الحياتية، فسنخرج الدين واقعاً من صلب الحياة، وطقوسه من صلب العقيدة السماوية الحقة.
وهنا عند الإجابة السابقة، تنتهي تلك الإشكالات الشائكة التي يتعثر فيها البعض، بل الكثيرون، وتتبعثر فيها أفكارهم، بعودة هذا الإنسان السالك إلى الله عبر التعاليم السماوية، إلى الإنسان الذي تستهدف تلك التعاليم السماوية سعادته وإصلاحه، عبر أدوار متعددة ووحدة هدفٍ واحدٍ، يبصره أصحاب العقول والبصيرة النيرة، ويغيب عن أصحاب النظرة الظلامية القشرية الضيقة للدين، التي تقصي العقل وتدمره وتخرج المنطق من جوهر العقيدة.
وفي النهاية، فإننا لن نتوازن أبداً في الحقيقة، إذا نظرنا لثورة الإمام الحسين بعيداً عن صلح الإمام الحسن ، وكذا إن فعلنا العكس. فكلا النهجين يتوازنان أمامنا لتتوازن في النهاية الشخصية الرسالية، فلا تميل وتغرق في أحد الجانبين. لكن ذلك للأسف، هو واقعاً ما وقع وما لازال يقع فيه البعض، بل الكثيرون من أتباع مدرسة أهل البيت ، حتى اليوم!!.