حرب الإنسان على الطبيعة - من المنتصر فيها؟
في مذكرة سابقة كان عنوانها "كلب يغرق وسط #البحيرة" وثّقت فيها حادثتين مُتناقضتين، إحداهما يتم فيها تسميم #حيوانات ضالة، وفي الأخرى يُبذل الغالي والنفيس من أجل إنقاذ #حيوان غريق!
أما في هذه المُذكرة فسأناقش جذور إحدى الحادثتين (من المذكرة السابقة)، من بُعد آخر، وفي نهاية المطاف سأتطرق للحدث الذي تعلّمت منه درساً تاريخياً وكتبته في مدونتي، حدث هزّ المنظمات الصحية في عام 1990 للميلاد؛ حدث ارتبط بظهور كائنات حية فريدة - عرفها الأنسان (في تلك النقطة الزمنية) لأول مرة!!!
وجوهر القضية، يختصره عنوان هذه المُذكرة، وإليك- عزيزي القارئ- التفصيل:
لقد بدأ الإنسان- وعلى عجلة من أمره- يتعامل مع الطبيعة بطريقة لا تخلو من الوحشية واللامبالاة (كما أعتقد، وسأوضح ذلك فيما بعد). وكلامي هذا لا يقتصر على عملية تسميم المئات- إذا لم يكن الآلاف- من الحيوانات الضالة (فهي محصلة أخيرة وحلقة من سلسلة طويلة).
لقد قدمت المُذكرة السابقة قمة الجبل الجليدي للمشكلة ولم تكشف عن قاعدتها، إضافة إلى مثال مختلف ومعاكس في التعامل مع الحيوان، تمثل في توصيات تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، فيما يتعلق بالرفق بالحيوان، وإن كان المُطبق لها غير المسلم، ولكن العقل- كحكم فيصل- يناقش الفكرة لا شخص صاحبها!
عودًا على بدء، ما نراه اليوم واضحاً للعيان- على سبيل المثال لا الحصر- هو مجموعة من الكلاب التي تجولت في المناطق السكنية بعد أن ضلت الطريق وخنقتها عمليات الإنسان التوسعية (تحت عنوان التمدن والتقدم الذي يخدم مصالحه الخاصة!!!). وهي نتيجة مبدئية، وواضحة المعالم.
إن زحف هذه الحيوانات هو جزء لا يتجزأ من ذلك البعض من الكم الضخم من الحياة المُتداخلة، التي نُسميها- كمُتخصصين في علوم حيوية – بالنظام البيئي المُتكامل (Ecosystem).
وللتأكيد على هذه الحقيقة، نسأل سؤالًا بديهيًا: متى كانت كلاب البراري ضالة وتعيش بين المساكن؟
وهل اشتكى منها السابقون، واعتبروها مُشكلة، ليأتي بعدها اللاحقون باختراع جديد اسمه التسميم لظاهرة "البحث عن الحياة"، التي فقدتها في بيئتها الأم؟
لقد بالغ ذلك الإنسان في تلك العملية التوسعية، ودون وضع قيود لما يهدف إليه من ترفيه على حساب الطبيعة!
فبدأ- في بعض من حروبه ضد الطبيعة- باستغلال المياه الجوفية في عملياته الصناعية، ودفن البحار، وسارع في اغتيال الرقعة الزراعية التي هي ثروة الوطن الحقيقية!
ولقد أدت هذه الممارسات بالكثير من الكائنات (التي تمكنت من البقاء بعد أن قاومت، على عكس بعضهم الآخر والذي رحل ولن يعود) بالزحف إلينا جراء ما نقوم به من عملية غزو وسطو واحتلال لمناطقها، ظنًا منها بأننا ندعوها للعيش سويًا في حب ووئام (ولم تدرِ بأن بعضنا لم يستطع أن يتعايش مع بعض، فضلًا عن أن نكون قادرين على تحمّلها)!!!.
فبدأت تتغذى- مكرهة لا بطلة- على أكل ليس بأكلها، وتنام- خائفًة- في أمكنة ليست مُفضلة عندها، وتقوم بالكثير من الممارسات التي لم تعتد عليها من ذي قبل في بيئتها الأم!
لقد نسي- ذلك الإنسان مرة أخرى- شناعة عمله عندما غزا بيئة تلك الحياة البرية والبحرية والجوية المُتداخلة، واعتقد أن تلك الحياة- المُهاجرة إلينا- هي فقط ما يراه (هو) بالعين المجردة (كبعض الكلاب والقطط الضالة)، ونسي بأن هناك مجموعة أخرى منها- أيضًا- لا تُرى بعينه المُجردة، وهي تائهة بيننا وتعيش معنا (بعض منها يظهر أثرها على شكل مرض، وبعض آخر منها بصدد الانتقام لواقعه واحتلال بيئته متى ما وجد الفرصة مواتية). وما أردت الإشارة له- وعلى وجه التحديد- هو أن ما لا نعلمه من غزو لبعض الحياة غير المرئية لمناطقنا السكنية- التي اعتقدنا بأننا قد بنينا حولها سياجًا حاميًا- هو أكثر بكثير من الذي ظهر لنا بأنه هو المُشكلة!
يُعيدني هذا القول إلى الدرس المستفاد في أواخر عام 1990 للميلاد (الذي يظهر بأننا لم نستفد منه حتى الآن)، حينما أدى قطع الغابات- وبالتحديد في كل من أستراليا وماليزيا- إلى هجرة الكثير من الحيوانات، التي بدأت تظهر ولأول مرة في تاريخها في بعض مناطق التجمعات السكنية في كلا البلدين!
فاعتقدت الأمانات المعنية هناك بأن المُشكلة هي في وجود تلك الحيوانات المهاجرة والتي كان من ضمنها وأهمها الخفافيش، والتي بدأت تهاجر إلى حيث يعيش بني البشر- بعد أن ضاق عليها الملجأ- فشرعوا يفكرون في طريقة للتخلص منها!
وإذا بهم يفاجؤون بوجود مخلوقات مجهرية قد زحفت مع البقية الباقية من الحيوانات التي كانت تعيش في تلك الغابات.
وعلى إثر ذلك، ظهر فيروس "هندرا" (Hendra) وفيروس "نيفا" (Nepha) إلى الوجود بشراسة شديدة زعزعت من خلالها أركان المنظمات الصحية العالمية ومنظمات مكافحة ومراقبة الأمراض في العالم (فهل هذا ما يحدث لدينا!).
ما ذكرته أعلاه هو مجرد مثال- من مجموعة أمثلة لا يسعى المقام لذكرها جميعًا- على مساهمة أنشطة الإنسان السلبية في تغيير النظام البيئي الموجود في أمكنة وخلال حقب زمنية محددة (لا أكثر ولا أقل)، حينما لم يفطن ذلك الإنسان أن ما قام به سيكون سببًا وراء زيادة احتمال ظهور سلالات فيروسية جديدة!!!
أما لدينا، فيبقى الإنسان غافلاً كعادته، لم يتعظ- بطريقة فكاهية أحيانًا ومُحزنة أحيانًا أخرى، يصدق على أعماله المثل القائل: "شر البلية ما يُضحك"- مُتسائلًا عن الأسباب والعوامل التي يجب أن تؤخذ في الحسبان للقضاء على بعض الحيوانات المرئية؟ وبقي بعضهم (وبعد كل تلك الدروس التاريخية التي مرت علينا!)، يسأل: وهل يوجد لدينا خفافيش؟ ومن أين أتت إلينا؟
ونسي- أو تناسى- أن اعتداءه السافر على الطبيعة يُعدُ محفزًا حقيقيًا لظهورها، بل ولظهور كائنات غير مرئية- أيضًا- والتي قد يكون من ضمنها سلالات ميكروبية جديدة (كبعض الفيروسات التي بدأنا نسمع عنها لأول مرة)!
بل ونسي- أيضًا- بأن الطبيعة تنتقم بطريقتها الخاصة حينما يتلاعب الإنسان بما هو فيها من مفردات أساسية تترابط لتكون نظامًا بيئيًا حيويًا!
بل ونسي- أيضًا- بأن اجتثاث أشجار الغابات وإزالة النخيل وردم البحار له ضريبته التي لن يستطيع دفع ثمنها (فإذا لم يكن- دفع الضريبة- في يومنا هذا، فهو قادم لا محالة، وهو ما عرفه الآخرون وآمنوا به في دول أخرى من خلال الدراسة والبحث)!
وحينما تنتقل تلك الحياة غير المرئية (والتي من ضمنها بعض السلالات الفيروسية) للإنسان لأول مرة (بدلًا من عائلها الطبيعي والمفضل لها في بيتها الأم)، فإنها تبدأ في التأقلم مع مُضيفها الجديد (وهو الإنسان)، وذلك بالتحور والتغير من أجل التكيف مع ذلك الوسط، حيث لا يوجد لها ملجأ آخر.
وللتوضيح- وعلى عكس الحيوانات المرئية الموصوفة بالضالة، التي تظهر بأنها الحلقة الأضعف في سلسلة النظام البيئي-، فإن الفيروسات التي هاجرت إلينا في الخفاء- والتي تسمى بالفيروسات المنبثقة (Emerging viruses)، أي الفيروسات التي تكيفت مع ظروف غير الظروف الاعتيادية المناسبة لتكاثرها، نظرًا لتغير بيئتها الطبيعية، مما يؤدي لظهور سلالات فيروسية فريدة منها- تتسم بخصائص جديدة تتمثل في قدرتها على إصابة خلايا وعائل جديد، وخصوصًا إذا ما فهمنا أن قوتها في سلسلة المنظومة البيئية مستمدة من أمرين مهمين، وهما:
1. معدلات التطفير فيها عالية جداً؛ نظراً لافتقار إنزيم التكاثر فيها إلى خاصية تصحيح الأخطاء (Proof-reading) في تسلسل قواعدها النيتروجينية أثناء التكاثر.
2. عملية الدمج والارتباط بين جزء من جين معين لنفس الفيروس المنبثق مع جزء من جين مختلف لفيروس آخر من نفس العائلة وموجود عند الإنسان بشكل طبيعي (أثناء تكاثر الفيروس المنبثق) يؤدي إلى ظهور سلالة فيروسية لها خاصية إمراضية متطورة، حيث تسمّى هذه الظاهرة الوراثية في علوم الهندسة الجينية بظاهرة معاودة الارتباط بين الجينات المختلفة (recombination).
بعد هذه المقدمة، لديّ سؤالان مرتبطان بواقعنا الحالي، أطرحهما هنا (قبل أن أنهي مذكرتي):
السؤال الأول: هل ظهور فيروسات كورونا بثوبها الجديد وفصيلتها الفريدة من نوعها، في منطقة شبه الجزيرة العربية له علاقة بشيء مماثل بالذي ذكرناه أعلاه (وعلى غرار ما كنا نسمع عنه في يوم من الأيام، مثل: إنفلونزا الخنازير وأنفلونزا الطيور وكورنا الإبل وسارز الخفافيش وهانتا الفئران وابوله القرود وإيدز الاورونجاتون الإفريقي وغيرها الكثير التي لا يسع المجال للخوض في تفاصيلها!)؟؟؟ (ويكفينا أن نزوج المرئي بغير المرئي من أسماء الكائنات الحية لنخرج بمصطلح لمرض جديد، خلقته لنا الطبيعة كسلاح تحارب به ضدنا، خصوصًا حينما عرفت بأننا عدوها الحقيقي فخشيتنا!)
إنني أفهم كمتخصص في مجال حيوي، بأن الذي يحدث هو أمر بديهي ومتوقع نظرًا لحرب الإنسان على الطبيعة، التي قد يكون من ضمن مكوناتها حيوانات انقرضت (قد لم تتمكن البشرية من توثيق وجودها!) أو بدأت في الانقراض، مما أدى ببعض منها إلى المقاومة، وبقي عرضة للتشتت والتيه- من ناحية- وضياع بعضها الآخر بين الأحراش والمنازل- من ناحية أخرى-، لنقوم بعدها بتسميم ما هو مرئي منها، ظناً منا بأننا نقضي على طبيعة المُشكلة!
السؤال الآخر: وهو المستفاد من دروس التاريخ الخاصة بالفيروسات المنبثقة في أماكن جغرافية أخرى، (عنوان هذه المذكرة): من المنتصر في هذه الحرب؟
أترك الإجابة عن هذين السؤالين لكل مهتمّ بالصالح العام!
عزيزي القارئ، نلتقي في المستقبل القريب لتقرأ مذكرة مختلفة لكنها ذات صلة.