خداع الذات

 

 

 

لعل واحدة من أبرز سمات المجتمعات المتخلفة غياب مبدأ الشفافية على المستويين الفردي والاجتماعي، مما يعني وجود حالة انفصام بين الذات والذات، وبينها وبين غيرها من الذوات. فالفرد لا يستطيع مواجهة ذاته ومكاشفتها ومحاسبتها، ولذلك فهو مشغول عنها بغيرها، خبير استراتيجي في سبر أغوار الآخرين وتصيد أخطائهم، الحقير منها قبل الخطير.

أما ذاته (الشريفة!) فهي منزهة عن كل عيب ودنس، ومبرأة من كل خطأ، حتى وإن صرح بغير ذلك.

والمجتمع – كمجتمع – يمارس الدور نفسه، فهو يرى أن له خصوصية مختلفة عن الآخرين، وأنه الأفضل والأكمل والأمثل، وأن على غيره أن يتعلم منه، وأن يقرأ تجربته الفذة.

يبصر في المجتمعات الأخرى عيوبها ونقائصها، ويعمى عن مكارمها وإيجابياتها.

وينتج عن هذا البقاء والمراوحة في مربع التخلف والتقهقر.

الفرد لا يبحث عن تطوير وتنمية ذاته، والمجتمع منهمك في الإعجاب بإنجازاته الوهمية، دون أن يواجه مشاكله الحقيقية بمعالجات جذرية، مبنية على تشخيص علمي دقيق لا يخضع للابتزاز والمساومة.

لنأخذ مثالا واقعيا على ذلك. تعاني بلادنا من مشكلة آخذة في التفاقم يوما بعد يوم، ولها آثارها الكارثية على مستوى الفرد والمجتمع، وأعني بها مشكلة البطالة.

لكن ماذا فعلنا لها؟
هل تمت مواجهة المشكلة مواجهة حقيقية، تبحث جذورها، وتعالج أسبابها؟
أم اكتفينا بخداع الذات من خلال تحجيم الأرقام الواقعية المفزعة، وإيجاد الحلول المؤقتة عن طريق الحبوب المسكنة والمهدئة؟

يكفينا من (حافز) سمعته التي طبقت الآفاق نكتا وأحاديث ساخرة.

ويكفينا أننا إلى اليوم نجهل حجم مشكلة البطالة، إذ لا رقم معلنا يبينها.

بل إن التضارب بين الوزارات المعنية سيد الموقف. ففي الوقت الذي صرح فيه وزير العمل بأن وزارته قد نجحت في توظيف ربع مليون مواطن في شركات ومؤسسات القطاع الخاص، كان تصريح محافظ المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية مدوياً هو الآخر حين أعلن بأن 39% من الموظفين المسجلين في شركات القطاع الخاص يتقاضون رواتب 1500ريال، بينما أفاد المستشار الاقتصادي فادي العجاجي بأن عدد السعوديين المشتغلين (15 سنة فأكثر) بلغ 4,3 مليون في النصف الأول من عام 2012م وفقاً لمسح القوى العاملة (الدورة الأولى) الصادر عن مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات، وأشار إلى 71% منهم تقريباً يعملون في القطاع الخاص، أي حوالي 3 ملايين عامل وعاملة.

ويكفينا برنامج (نطاقات) الذي أفرز زيادة غير مسبوقة في الوظائف الوهمية.

هذه فقط مشكلة واحدة، (وعلى مثلها فقس ما سواها).

نقول: إن أعظم الخداع خداع الذات وغشها، وأسوأ منه الاستمرار في ذات الطريق الخطأ الذي لا يؤدي إلا إلى المزيد من الأوهام. الحل إذن هو المواجهة والمصارحة والمكاشفة والشفافية؛ أن نسمي الأعور أعورا والأعمى أعمى.

يقول الإمام محمد بن علي الباقر : ‏ كَفَى بِالْمَرْءِ غِشّاً لِنَفْسِهِ‏ أَنْ يُبْصِرَ مِنَ النَّاسِ مَا يَعْمَى عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ نَفْسِهِ أَوْ يَعِيبَ غَيْرَهُ بِمَا لَا يَسْتَطِيعُ تَرْكَهُ أَوْ يُؤْذِيَ جَلِيسَهُ بِمَا لَا يَعْنِيهِ.


 

شاعر وأديب