النفس والأمانة

 

 

 

إذا تغلب الإنسان على بعض شهواته الرئيسة استطاع أن يكون من أفضل الناس أخلاقًا وأصدقهم حديثًا وأعظمهم أمانة وأكثرهم تدينًا وأقربهم من اللهِ زلفى، وأأمنهم على عبيد الله وعلى أموال الله وعلى أعراض الناس.

إذا تمكن الإنسان من شهوة المال وبسط سيطرته عليها، وشهوة الجنس وتمكن من ضبطها، وشهوة الأنا التي بدأها الشيطان وتكبر على أوامر الرحمن جلَّ جلاله وبلانا بهذا التكبر للعنه الله وأعاذنا الله وإياكم منه، تغلب الإنسان على نفسهِ وعلى عدوهِ الشيطان وكان أقربُ الناس من الطاعةِ وأبعدهم عن المعصيةِ وأقواهم مكنة من نفسهِ ومن بقيةِ الشهوات والغرائز التي يعوذ أغلبها لهذه الغرائز والشهوات الثلاث التي يجرجر بعضها بعضا وتضعف صاحبها في مقاومةِ حب الدنيا التي هي رأس كل خطيئة.

إذا تمكن وتغلب عليها لا يبقى شيء يخاف عليه منه ولا شيء يجره إليه وأصبح من المؤمنين الصالحين الذين نجوا من ذل الحياة وذل عبادة النفس والشيطان والأنا وصارت الدنيا عنده بما فيها من المال والسلطة والجاه والنعيم لا تساوي فردة حذاء قديمة ملقاة في الزبالة أجلكم الله لا قيمة لها، ومن ينظر إلى الدنيا بهذا المنظار الصافي الصادق الذي يصوره أمير المؤمنين علي عليه السلام في نهج البلاغة في قوله: دنياكم هذه أزهد عندي من عفطةِ عنز.

هذا الإنسان بلغ من الإيمانِ والقناعةِ والوفاءِ والزهدِ درجةُ العُلا في حطامها وجعلها وما فيها خلف ظهره فلا يحتاج لأن يظلم ولا لأن يزني ولا ليسرق ولا ليرتشي، إن جاءه المال من المصدر الحلال حمد الله وأثنى عليه وشكره وتمتع بوجوده وكثرته والله لا يُحرم على المؤمن الغنى، وإن قل أو أبتلى بالفقر لا يغير في ثنائه على الله شيئا، ومن كان وفيًّا وشاكرًا وحامدًا لله سبحانهُ وتعالى وهو غنيٌ أو في منصبِ الرئاسة والمسؤولية أو مدير على الناس أو معلم لأبنائهم أو طبيب لمرضاهم كان أشكر وأحمد لله حين يفتقد المال ويفتقد الجاه والسلطة، ومن طغى في غناه وتجبر في سلطانهِ وجاهه وعصى رازقه طغى يوم فقره، ومن خان أمانته ومسؤوليته في ضعفهِ خانها يوم غناه، ومن تمكن من النفسِ التي سوف تفارق الحياة وتحاسب على كل ذرة شر طوعها في الخير والطاعة وأصبح في جادة الخير والأمانة والوفاء فلا يحتاج لأن يحتال على الناس ولا لأن يخدعهم كما يفعل عديمو الأمانة ولا حاجة له للخيانة أو الغش ولا لبيع الممنوع لأنه لا يخون ولا يحتال ولا يغش إلا من عبد الدنيا واتبع الشيطان وركن إلى نفسه ووساوسها، ولا حاجة له لملك منتهاه إلى زوال.

يقول أمير المؤمنين علي عليه السلام: (لا تغرنكم الحياة الدنيا فإن الناس اثنان بر تقي وآخر شقي، والدار داران لا ثالث لهما، والكتاب واحد لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ألا وإن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وباب كل بلية ومجمع كل فتنة، وداعية كل ريبة، الويل لمن جمع الدنيا وأورثها من لا يحمده، وقدم على من لا يعذره، الدنيا دار المنافقين، وليست بدار المتقين، فلتكن حظك من الدنيا قوام صلبك، وإمساك نفسك، وتزود لمعادك) .

فالإنسان إنسان بأمانته ودينه وإذا فقد الأمانة فقد الدين، وإذا فقد الدين انسلخ من إنسانيته وأصبح لا قيمة له ولا فرق بينه وبين الشيطان المُخادع المحتال، لأن من لا أمانة له لا أخلاق له، ومن لا أخلاق له لا وفاء له، ومن لا وفاء له لا صدق للسانه، ومن لا صدق للسانه لا فائدة فيه وصحبته مذلة وعياله ضياع وجيرته أذى والابتعاد عنه معزة وعدم الحاجة إليه مفخرة وعدم الوثوق به أمانة.

عن الإمام علي عليه السلام قال: (الأمانة تؤدي إلى الصدق). وعنه عليه السلام قال: (إذا قويت الأمانة كثر الصدق). وعنه عليه السلام قال: (الأمانة والوفاء صدق الأفعال) .

إذا تغلبت النفس على صاحبها واتبع الإنسان هواه تمكن منه الشيطان وحوله لنموذج من المحتالين والنصابين وأهل الرشا الذين يعيشون على السحت:
 
ينقل بأن رجلا في الاربعين من عمره لا يملك مسكنا يسكن فيه، فيسكن وعائلته في منزلٍ بالإيجارِ ويبحث عن أفخم الشقق وأحدثها ويقوم بدفع مقدم الإيجار إلى ثلاثةِ أشهر وبعد انتهاء الفترة يبقى في سكنهِ دون دفع ما تبقى من بقيةِ السنةِ فيأتيه صاحب العقار يطالبهُ بضرورةِ دفع ما تبقى عليه فيماطل مع المالك بالتسويف بحجة تأخير الراتب، وآخر الشهر سأدفع، والشهر القادم سأعطيك، وتمر الأشهر متسارعة حتى يتراكم عليه مبلغ لا يستطيع تسديده فيجبره المالك بعد أعوام من المماطلة على الخروج من الشقة على أن يدفع ما عليه في ما بعد فيذهب ولا يدفعه ويفعل ذلك مع البقال والخضار وصاحب اللحم، ويتنقل من شقةٍ إلى أخرى ومن حيٍ إلى آخر وهذه طريقته في الحياة، فهل هذا الإنسان له وفاء أو ذمة أو تقبل منه صلاته في مكانٍ مغصوب!.

عن موسى بن جعفر، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له، ولا صلاة لمن لا يتم ركوعها وسجودها) .

قال لقمان عليه السلام: (يا بني، أد الأمانة تسلم لك دنياك وآخرتك، وكن أمينا تكن غنيا) .

ومن اعتاد على ذلك عاش بين الناس فقيرًا مطاردًا منبوذًا وستبقى الناس تخافه وتحذره، والذي لا يصبر على نفسه لا تصبر عليه الناس.

عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (الأمانة تجلب الغناء، والخيانة تجلب الفقر) .

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
هناء
[ القطيف ]: 21 / 4 / 2012م - 11:05 م
كتاباتك اكثر من رائعه,وننتظر المزيد