جاسم قوا أحمد.. وتراتيل سورة ياسين..!

 

 

كان قريب النجوى، متباعد فيما يهمه ويشغل يقظته، متعاليا في عوالمه، يقطف غيمة، ويقرأ على نبض قلبه سورة الرحمن، وتبارك وألم نشرح.. ويطوي بالصمت سيره حاملا فيض حبه بابتسامته الصدق والفيض والحضور.. وهي ذاتها التي أطلت على حاملين جثمانه من الصورة المرفوعة له، إلى مستقره ومستودع الطيب الصالح من قلبه وفكره وعمله..!.

«أليس من لقسوة.. أن تجعلنا نحبك.. ثم تفرض علينا الغياب والحرمان منك». هذه آخر كلمة قلتها له في لقائي الأخير به في لقاء عام، أيقنتُ حين بلغني الخبر الموجع وأنا بعيد كل البعد عن قدرتي على الحضور.. أدركتٌ حين ذاك.. أن الأحلام الجميلة لا عمر لها.. إنها تأتي دون ميعاد وترحل دون إذن من أحد..

لقد أخذت بما لا أتوقع، وبما لا يحتمله قلبي، وبما فاض عن صبري عليه، في تلك اللحظة بالذات تذكرتُ قوله لي «من غاب عن الناس غابت الناس عنه» حين سقط الحجاب وتوالى ثقل الصمت طاهرا في ممشاك يا جميل الخطى.. تريث على ضفاف حبي لك.. حتى أخبرك أن من فقد مثلك زهد في كثير ممن تقع عليه عيناه..

أعلمُ يا فقيدا معقودا بجدائل الشرف والنبل والكرامة والخير.. أنك من زمن متقادم تتهيأ للرحيل.. وأنك كنت تقترب من الموت بحفاوة صديق..!. وبوله الشغوف بحسن الخواتيم..!

في دائرة الأوقاف والمواريث.. كان صمتك حزينا لسبب لم أحط به، ولم أدريه، وكنتَ تستعجل الوقف لله، أرضا جعلتها لبيت من بيوت الله، واحدة من قرابينك.. واحدة من عطاياك.. وتحضير الزاد وأنت المترحل بيقين المؤمنين المخلصين.

تراب شره.. وأرض شروب يا جاسم..!

فقد رأيتُ في عينيك معاني سورة ياسين، ودمعة عصية على أن تنسكب، وأتسعت نظراتي إليك دنوا منك، غميرة الحب. اتسعت حتى رأيت بردها وصدقها على روحك الشافة النقية حين ذاك..!

حين طلبت منك المكث أو وعدا - للقاء قريب - على مائدتي وفي بيتي.. فاض النقاء من عينيك حاملا الآف المعاني والحزن الذي لا زال ينسكب في روحي بفقدك بغيابك المفاجئ والموجع.. لقد كنت تعلم أن اللقاء في مكان آخر.. وأنك قد اتخذت مع الله موعدا.. لن تخلفه وتترحل إليه - صامتا - عن الكثير مما لا يجب قوله.. والكثير مما يجب أن يذكرك الناس به، والكثير من الحجر والصخر التي حفرت.

رهافة الوعي..

عمق الصفاء فيك.. عيناك المحرضتان على حبك..

معانيك وفيض الحس منك..

كلها صفات بعضها فوق بعض،، وبعضها من بعض.. تجعل فقدك أكثر ألما لمن كان قريبا منك.. وبمقدار فهمي لك..

ها أنت في رحلة - العودة - تسبقنا.. تجعلنا أمام مسؤولية أن نرتفع إليك.. إلى طهرك وصفاءك ونبلك الشريف وكرمك الغمر..! وهذا ما لا نقدر عليه كله، ونعجز عنه في أكثر الأحيان.. ونرتد دونه دائما..!.

يا جميلا ترحل قبل وقت الرحيل.. أخبرني الآن من عوالمك الندية والبعيدة عنا، والقريبة من الرحمة والمغفرة والرضوان. أنبئني يا جاسم.. من قرأ على روحك معاني سورة ياسين! من أنزل عليك الروح والرياحان.. وكيف طوبى.. وأين بلغت من آل ياسين..!

يا صاحب الشفاعات.. حيا... في رحلة العودة.. الأخيرة لك من عالمنا الضيق البغيض هذا، الذي لا نحتمل فيه حتى أنفسنا إن اختلفنا، وإن تقابلنا في رأي وفكرة وتفسير أو تأويل..! لقد سقط عنك الحجاب.. وتجلى لك المستور، وتعاليت لم تزل عاليا رفيعا سماويا بقلبك أيها المترحل تحمل معك القرنفل وزهرة عباد الشمس والريحان والياسمين..

لقد حللت بولي الشفاعات كلها.. وتنزلت على صاحب الكوثر الساقي لك شربة الريا التي لا ينالك بعدها عطش أو يباس..!

قريب الحب منه ومن أهل بيته حتى تواريت بالحجاب.. والله يحشر كل حجر وبشر مع من أحب..

خد بيد قلبي.. محمدا وعليا وفاطمة والحسن والحسين.. وتولى بوجهك وجه الله.. فقد آمنت بالله حيا. وبمحمد وآل محمد محبة وشفاعة ورضا ورضوان أعظم بين يدي الله.

رحمك الله أبدا ما بقيتُ وبقي ألليل والنهار..