الذاكرة الشيعية والذاكرة السنية

 

 

 

من وحي حديث أحد مثقفينا الكبار عن الذاكرة الشيعية والذاكرة السنية، وهو هنا الدكتور الكبير عبد الله الغذامي، في حلقته النقاشية على قناة دليل الفضائية بتاريخ ( الجمعة  7 / 1 /  1433 هـ )، مع أخينا العزيز الأستاذ/ عبد العزيز قاسم، والتي تطرق في مقدمتها الدكتور الغذامي للقضية الوطنية (أحداث القطيف والعوامية)، بما هو - من وجهة نظري - معقول ومقبول وملائم من الهدوء والعقلانية، وبعيدٌ عن الحقد والطائفية، والتحريض ضد المواطنين الشيعة، حيث هناك تناول الغذامي بطريقة ما، قضية تعزيز المواطنة في مقابل الهويات الدينية المتجذرة، وتطرق فيما تطرق في تلك الحلقة لوصية العظيم والكبير المرحوم الشيخ/ محمد مهدي شمس الدين (رحمه الله، وعطر روحه الطاهرة)، في حلقة نقاشية تستحق منا حقاً التوقف عندها ملياً، بدراسات وقراءات وتأملات إثرائية وتوعوية جادة وواعية وهادفة، لم أجد لها للأسف في زحمة حياتي في هذه الفترة الحاضرة بالأخص، متسعاً مناسباً من الوقت الكافي، للتطرق التفصيلي لها بما يناسب، ومع ذلك فقد ارتأيت الإلماح لها هنا على عجالة، مع رغبة جادة مني في أن أعود لها لاحقاً - إن قدر الله -، ويبقى المهم هنا أني من وحيها وإلهامها، أتيت بعدها، ، بثرثرة وفضفضة - أحسبها مفيدة ونافعة -، وأعلم كما وأعلمكم أيضاً، أنني أتيت هنا لتلك الثرثرة والفضفضة فقط لا غير، بعيداً عن تلك الكتابات الممنهجة الثقافية والعلمية الجادة المنتجة بفاعلية، التي تبنى فوقها المشاريع، ويصح أن تتخذ بناءً عليها القرارات، وأنا أعلم جيداً هنا من الجهة الأخرى البعيدة عن تلك الجدية، ما لـتلك (الثرثرة والفضفضة) في حياتنا الواقعية، من قوة وفاعلية وتأثيرات في الحياة العامة، خصوصاً هنا في مثل مجتمعاتنا، مع تنبهنا وفهمنا أننا كشعوب عربية وإسلامية، شعوب عاطفية سماعية بدائية التفكير غالباً، متميزة بثرثراتها ومنابرها المليئة بالغثاء من القول، وبالكثير من تلك الفوضى الكلامية والفضفضة والثرثرات، التي لا تحمل في طياتها إلا القليل مما يناسب منطق العقلاء العلمي في هذا العصر، الذي تبحث عنه وتقدره وتقدسه تلك الشعوب العاقلة المتحضرة من حولنا، وهي ثرثرات وفضفضات تشحن الذاكرة بما يثير ويؤجج الخلافات والنزاعات، وما يصنع الحروب ويشعلها، وما يدمر الإرادات، وما يصنع الفتن، وما يحطم الإنسان، وما لا ينجب إلا المبنجين فكرياً ... الخ. ولذا فقد أتيت هنا، لأصنع العكس، عبر شيءٍ ما من الثرثرات البناءة الإيجابية، التي أتمنى أن تحتل كل فضاءات، المحكيات والمقروءات والمسموعات والمشاهد الحركية.

وإذاً من هذا المنطلق، فلا مانع هنا من أن نثرثر مع المثرثرين، لنغسل بثرثرات النور ذنوبنا، وركاماً متكدساً في النفوس والعقول والضمائر، من الخرافات والأوهام والزخارف، التي لن تغسلها إلا الثرثرات المستمرة، كاستمرارية تلك الشلالات المستمرة من الثرثرات المتعفنة، الملوثة لهوائنا وترابنا ومائنا وفكرنا وحاضرنا ومستقبلنا ومستقبل أبنائنا، المعهودة لنا.

نعم أيها الكبير الدكتور الغذامي، تلك الذاكرة التي ذكرتها بحالتها التاريخية، والتي يستصحبها السنة والشيعة، ويا أيها الأحبة الكبار والصغار، من مختلف المستويات والأعمار والأجناس والألوان والمذاهب الإسلامية وغيرها، ممن تستمعون للحديث العام هنا عنها وحولها، فإنها ذلك المخزون الذهني البشري الكبير والخطير، الذي يفوق في خطورته خطر الأسلحة الجرثومية والنووية مجتمعة، وفي عظمته وقوته ونفعه وضرره، أمصال الكوليرا والتيفوئيد والسل الرئوي، وجميع المضادات الحيوية، وكل الأقمار الصناعية ... الخ. فهي صانعة مآزقنا الطويلة، الممتدة عبر التاريخ الطويل، وملهمة عصور الظلام، التي لم تنته بعد، والسبب الرئيس في إراقة الكثير من الدماء عبر تاريخنا البشري المر المضرج بالدماء.

الذاكرة هنا أيها الأحبة حقاً، ليست هي ذلك الشيء الذي يمكن التساهل به، وجراثيمها التي تنتشر كالأبواغ في الهواء الذي نتنفسه كل يوم عبر الثرثرات، من أخطر أنواع الجراثيم التي ينقلها الهواء والماء والتراب والفضاء لنا، وأقدرها على الإحياء، أو الفتك والقتل والقضاء على السعادة والنور، في هذه الحياة.

بالذاكرة تلك، يصبح الإنسان حقاً، شيعياً أو سنياً، ويهودياً أو مسيحياً أو مسلماً أو مجوسياً ... إلى آخر ذلك. وبها أيضاً، يصبح الإنسان طبيباً أو زبالاً، ومهندساً أو معلماً أو كاتباً أو خطيباً أو تاجراً ... إلى آخر ذلك كله.

وبها كذلك، يصبح الإنسان محباً أو كارهاً، ويصبح ودوداً أو عدائياً، ويصبح طفلاً أو رجلاً، وراشداً أو غير راشد ... وهكذا. وهكذا تستمر الحكاية، منذ الأزل، منذ أن وجدت أول ذاكرة، ومنذ أن نشأت ذاكرة أبينا آدم وذاكرة أمنا حواء (عليهما السلام).

نعم، بالذاكرة يصبح الإنسان إنساناً، وبدونها يختفي، فتتلاشى كل عظامه وقيمته الإنسانية الحقيقية، فيصبح حيواناً أو ما شابه ذلك، أكرمكم الله وأعزكم.

إذاً فالذاكرة هي الإنسان، والإنسان هو الذاكرة، وهذا ما يجب أن نعيه ونتنبه له، إن لم نكن قد فعلنا ذلك بالفعل، لنفهم أن الذاكرة إذا تغيرت تغير الإنسان، وإذا تغير الإنسان، فنعلم أن هناك ذاكرة قد تغيرت.

والذاكرة المذكورة هنا، هي التي تحمل لنا في أحشائها، التعاسة والألم، أو السعادة والفرح والبهجة والسرور، فتنقلها لنا جميعاً مسافات بعيدة شاسعة جداً، بعيدة جداً من الحدث، على خط الزمن. أليس كذلك؟!.

واحمدوا الله كثيراً هنا أيها الأحبة، على أن الذاكرة تلك المختزنة في الدماغ ذي المادة الهلامية، والأبعاد الثلاثة، تتلاشى تماماً في القبر بعد الموت بعد تحلل الجسد وتحوله مرة أخرى إلى رمل وتراب، فلا تغادر من محتويات تلك الذاكرة، صغيرة ولا كبيرة، إلا إلى الفناء. فالقبر كما أراده البارئ سبحانه وتعالى، هو قبو العبور إلى فناء الذاكرة، المميت لأشباحها وأشخاصها وكل ما فيها، وفيه ساعة الصفر الحاسمة، واللحظات الأخيرة لتلك الذاكرة. فالحمد لله على كل حال، ونسأله سبحانه وتعالى، حسن الخاتمة، وخير المآل.

إن للذاكرة أسراراً وخبايا، وزوايا مشرقة، وأخرى مظلمة. فمن زواياها المظلمة تلك، أننا عندما نخطئ خطيئة، فنصدق خرافة غبية، نحارب من أجلها ملايين البشر، ثم يفضح جهلنا الزمن، فسرعان ما تمسح ذاكرتنا هنا، من هذه الحيثيات المتعفنة، المرتبطة بالمعركة البشرية بين جهلنا من جهة، وبؤر النور في هذا العالم، بعد تلك المعركة الغبية الجاهلة، ثم نعود بعدها ناسين أو متناسين أننا جهلة وأغبياء وظالمين، لنتبجح على إخواننا وخصومنا، بشكل مضحك مبكي، جاهلٍ ومقزز، من جديد. وهنا، فإن استمرار وبقاء ونضج وتكشف الفضيحة والحل والعلاج، ليس بحاجة هنا سوى لـ "شوية ذاكرة". فهل ستكون تلك الذاكرة المطلوبة، موجودة فعلاً حينها، لتهبنا الوعي؟!!! أم ستختفي فعلاً، كما اختفت من قبل، مواقفنا من: التلفاز والمذياع، والتعليم النسوي والعباءة الكتافي، وتعلم اللغة الإنجليزية والسفر للخارج للدراسة العلمية في الدول الأجنبية الكافرة ... الخ؟!!! وأضف لها لاحقاً وفيما بعد، قيادة المرأة للسيارة، وهكذا؟!!!.

إن الذاكرة، وهي ذلك الكائن العجيب، الذي تحدثنا عنه سابقاً، هي التي أغرقت الشيعة والسنة، في خلافات وصراعات مريرة، لها أول و "ملهاش آخر"، عبر الزمن، وعبر كرتنا الأرضية، كما يقول بعض العرب. وهي التي جنبتنا صراعات مع ذوينا وأنفسنا ومحبينا، عندما مسحت (منها) كل تفاصيل ما كنا نكره، وجعلت غيره مقبولاً ومحبوباً لنا اليوم، وكأنه محبوبنا منذ الأزل، وكأن شيئاً لم يكن، من مواقفنا وترهاتنا وصراعاتنا السابقة. فما أسرع أن ينسى الإنسان منا عيوبه، ويمحو مثالبه وما يؤلمه، من تلك الذاكرة؟!!!.

نعم مخزون من الذاكرة يشكل الشخصية الشيعية ويدفعها للأمام أو للخلف في علاقاتها وسلوكها، ومخزون من الذاكرة يشكل الشخصية السنية ويدفعها للأمام أو للخلف في علاقاتها وسلوكها ... وهكذا.

فأعطوني أيها الأحبة، جزاكم الله خيراً، مفتاحاً لتلك الذاكرة، وسأغير به الكون كله. سأغير الإنسان والإنسانية: الأطباء والزبالين، الدكاترة والأساتذة، الحكماء والأغبياء، الإبر والصواريخ، والنفط والمخلوقات الزاحفة ...الخ. ولن يبقى أحدٌ أو أي شيءٍ ما، بعد استخدام مفاتيح الذاكرة تلك، محتفظاً بذاته السابقة. فلسنا وليس كل شيء، إلا ذاكرة، أمام مشاعرنا الحية الحاضرة.

ولهذا السبب، وبهذا السبب والمفتاح الخطير، نجحت الفضائيات، وقديماً المنابر التقليدية والصحافة الورقية، في ألاعيبها الساذجة والقذرة. لأنها امتلكت جزأً من الذاكرة ومفاتيحها، فأصبحت تتلاعب بعقول الناس، وكل الحياة.

ولهذا، يفرح الشيعي عندما يمتلك قناة شيعية، والسني عندما يمتلك قناة سنية، والمسيحي عندما يمتلك قناة مسيحية ... الخ، فهم جميعاً، يتلاعبون حينها بالناس كيفما شاؤوا، فالناس ليسوا سوى الذاكرة وعبيدٌ لها.

فلا تلوموا الناس إذاً، ولوموا الذاكرة، قدموها للمحاكمة، فنحن لسنا سوى ما تصنعه، تلك الذاكرة.

إن الذاكرة الشيعية المشحونة بالتاريخ، ليست هي نفسها تلك الذاكرة الشيعية المفرغة من ذلك التاريخ. والذاكرة السنية كذلك.

والذاكرة السنية التي تتكدس بهموم الوطن وضرورات الحياة، ليست هي نفس تلك الذاكرة المشحونة بجزئيات تفاصيل الحياة الإسلامية البائدة وصراعات الأولين. وكذا الذاكرة الشيعية.

إن هذه الذاكرة، هي الفارق الكبير والمائز، بين حياة بدائية، وحياة متحضرة. لذا، فيجب أن تطهر وتغسل، وتقدم لطبيب قدير، وتعرض على المحاكمة. ولهذا، فلا عيب هنا، في الفضفضة والثرثرة، التي تفضح تلك الذاكرة، ومثالبها وعيوبها وجناياتها. بل لابد من الثرثرة هنا، فالثرثرات الإيجابية، كفيلة لو استمرت وتكاثرت، بأن تغسل ذلك الركام النتن كله المتجمع في الذاكرة، وتزيحه من تلافيفها، ومن وجه الحياة البشرية، لتصبح الحياة، مضيئة ومشرقة بنور ربها ... والسلام.