الحقبة الناصرية ... سلب و إيجاب

 

كان ظهور جمال عبد الناصر (1918- 1970) في منتصف القرن الماضي ، حالة فاصلة في حياة العالم الثالث السياسية و الإجتماعية و منظومته الإقتصادية ، كأنه حجر كبير وقع في مياه راكدة ، ولكن هذا الحجر لم يركن إلى القاع ، بل صار يتنقل بين زوايا هذه البحيرة النائمة .

ليسمح لي القارئ العزيز _ بأن نسلط نقاطا من الضوء على هذه التجربة الثرية و الصعبة في آن ، بمناسبة ذكرى رحيله الحادية و الأربعين , و من المحتم أن نجد في هذه الحقبة الجانب السلبي و الإيجابي ، التي لا يمكن بأي حال من الأحوال ، الإتيان بعمقها في مقالة أو عشر ، و قد سبقنا من هو أكثر إلماما و خبرة في عشرات الكتب و الدوريات .

لن تكون التجربة الناصرية هي الأخيرة ، التي تثير جدلا و مخاضا كبيرا ، طيلة وجودها الزمني ، و مابعد رحيل رمزها الأول ، و لكنها تظل غنية بمخزونها الفكري ، و حراكها الثقافي المؤسس لجيل جديد ، انتقل من الطبقية السحيقة و ظلم الإقطاع إلى عصر الإختيار ، و الشعور بالوجود في هذه البقعة من العالم ، و إن لم تخلو من استبداد الأب !

لقد شعر الشعب العربي بعمومه ، و المصري مخصوصا بنوع من الكبرياء المستعاد ، و بالخروج من شرنقة القهر و الذل ، التي كانت تصلي نارها على ظهره بأيدي المحتل و أدواته المحلية لا فرق ، فكان ناصر كالفارس الذي يمتطي ظهر حصان أبيض ، و الشعوب هي تلك الفتاة الحالمة به ، و ذلك من ما تملكته شعوبنا الشرقية التي تدغدها الرومانسية المترفة ، و إن كانت الشعوب الأخرى  لها حظ من هذا الترف أيضا !

في خطابه الشهير بعد نكسة يونيو 67 ، التي قصمت ظهر نظامه عسكريا و سياسيا ، برع في هذا الخطاب كعادته بعمق صوته ، و إحساسه المؤثر في جذب المواطن ، حتى و هو مكسور من هذه الهزيمة المدوية ، و تلك  تدخلنا في البراعة اللفظية و الحسية عند العرب حتى في عز انكسارهم !

لا توجد مبررات مقنعة إذا حاولنا الحيادية , و البعد عن التحزب ، تجعل ناصرا يسلك طريق القمع و السجون و ثقافة الخوف التي تتلازم مع طريقه في التنمية و البناء ،

فهذا المواطن البسيط هو الذي خرج له ، في إنجازاته و كبواته بمئات الألوف ، إن لم يكن الملايين ، فما الداعي حين يخالفه عدة معارضين مهما بلغ عددهم ، بالأخذ بالشبهة و إعطاء رقابهم لمن لا يرحم .

كما أنه لا يمكن إغفال الأخطاء السياسية القاتلة ، التي وقع فيها نظامه كمثال سحب القوات الدولية التي مهدت لحرب يونيو 67 ، و تضخم نفوذ الجيش و العسكر على حساب الحياة السياسية و الإجتماعية للشعب ، و إلغاء التعددية السياسية التي كانت قائمة ، و من الإيجاز أن نقول إن سياسة ( المستبد العادل)  كمن يمسك العصا  من وسطها و في ذلك تكمن الصعوبة  .

يعلق أحد المعاصرين لناصر بأنه " يتفق مع ناصر في سياسة التحرر الوطني و العدالة الإجتماعية و مجانية التعليم ، و لكنه يختلف معه في الديمقراطية التي ظلت مؤجلة لديه ، كما يخالفه في انعدام مفهوم تداول السلطة و حكم الشخصنة " .

لقد كان بناء السد العالي انجازا قوميا لمصر في عصر ناصر ، كما أن التحول لبناء المصانع و الطاقة البديلة ، و توجيه البنية التحتية للأرياف ، و ليس فقط للقاهرة ، عملا مهما في عهده .

لعل تأميم قناة السويس عام 1956 إنجاز أول في إدخال مصر للتحرر الإقتصادي ، كما أن اتفاقية جلاء القوات البريطانية عن مصر في 1954 إنجاز وطني آخر .

مهما يكن من اختلاف الرؤى ، و الاتجاهات و النزعات و المواقف من عبد الناصر ، فمرحلته مهمة للغاية و تستحق المتابعة ، و إعادة القراءة و التمعن ، و لكن في المنطقة الوسطى ، ليست في التمجيد الأعمى ، و لا في العدائية المطلقة ، و تلك حكاية أخرى .

لكم محبتي .

معلم اللغة العربية