كيف يفكر المجتمع السعودي؟ (2-3)

 

في الجزء الأول من المقالة تحدثنا عن نمط الازدواجية، وهنا سنتحدث عن نمط اجتماعي آخر، يتداخل علائقيا بالنمط الأول، ويبدو متجذرا في مجتمعنا السعودي وهو ما يمكن تسميته بـ"الإنسان المقهور" أو "المشيَّأ".

ويتخلق هذا النمط من الوجود ـ الإنسان المقهور ـ في رحم المجتمعات التقليدية، هذا الإنسان المقهور هو الذي يشعر دوماً باستلاب الإرادة، واضمحلال الذات، أمام القوة التي يفرضها عليه السيد، وقد يكون هذا السيد، رمزا سياسيا أو دينيا، شيخ القبيلة، أو حتى رجل الشرطة.

إن المجتمع التقليدي، أو التراثي/السلفي، الرجعي أو الماضوي إن شئتم، يبدو فيه الإنسان فاقداً لإنسانيته، لقيمته الوجودية، لقدسيتها.

فجوهر المجتمع التقليدي، يتشكل من ثنائية التسلط والخضوع، علاقة السيطرة والقهر.

هو مجتمع فقدان الكرامة والحرية، فقدان التوازن النفسي، الاستلاب الكلي.

هذا الاستلاب الذي يحوّل الإنسان إلى شيء، إلى وسيلة، إلى قيمة مبخسة. وكأنما يشكل وجوده عبئاً على الحياة، الآخر، أو أحياناً وسيلة لخدمة الآخر، إنه يعيش حياته من أجل الآخر لا من أجل ذاته.

إن الإنسان المقهور لا يجد له مكانة في عالم التسلط العنفي سوى الرضوخ والتبعية.

إن عالم الإنسان المقهور هو عالم التسلط واللاديمقراطية، التوازن فيه مختل، والعلاقات الإنسانية بمختلف مستوياتها لا تخرج عن علاقة التسلط والخضوع ومن ذلك: ما نلحظه في علاقة الرئيس بالمرؤوس ذات الطابع الرضوخي، وعلاقة الرجل بالمرأة والكبير بالصغير، والقوي بالضعيف، والمعلم بالتلميذ، ورجل الشرطة بالمواطن.

وحتى الحب يعاش في هذا المجتمع تحت وطأة التسلط والرضوخ، تسلط المحبوب ورضوخ الحبيب؛ التسلط من خلال أسر الحب.

وهكذا أينما وجد الإنسان المقهور في العمل أو في المدرسة، في البيت أو في الشارع، يجابه باستمرار بأشكال متنوعة من علاقات التسلط والقهر، تفقده الشعور الأساسي بالأمن والسيطرة على مصيره، وتجعله نهباً للإحباط والقلق.

بتعبير آخر، كل إنسان مقهور هو بالضرورة تابع وخاضع على أي مستوى معين من سلم السيطرة والقهر، فهو مرة يلعب دور المتسلط على من هم أدنى منه مرتبة أو قوة، وفي أخرى يلعب دور الخاضع وهكذا دواليك.

ليس من تكافؤ في هذا العالم؛ فبدل علاقة المساواة والتي تشترط بالضرورة الاعتراف المتبادل بإنسانية الآخر، كقيمة إنسانية، وحقه المقدس في الوجود، تنازعها علاقة مغايرة تماماً، شكلاً ومضموناً، هي العلاقة بين الأنا والآخر، علاقة بين طرفي نقيض/الأعلى والأدنى، تسلط ورضوخ، قهر وخضوع.

ومحل علاقة التكافؤ تقوم بديلاً عنها علاقة "التَشَيّؤ" التي يؤكد بعض الباحثين الاجتماعيين إن الإنسان إذا فقد الاعتراف به، بإنسانيته وقيمتها أو بحياته وقدسيتها. باعتباره شيئاً، يصبح كل ما يتعلق به أو ما يمت إليه مباحاً (غبن، اعتداء، تسلط، استغلال، قتل،.. إلخ) ذلك هو الإنسان المقهور، كائن العوالم التقليدية المتخلفة.

وبمقدار ما تتلاشى ذاتية الإنسان المقهور تتضخم ذاتية المتسلط بشكل مفرط يحتوي الآخر الشيء، ويجعله تابعاً له وأداة لخدمته في حالة من طغيان الأنوية كما يؤكد ذلك المفكر حجازي في كتابه الفذ "الإنسان المهدور".

لا اعتراف إلاّ بـ"أنا" - السيد، لا حياة إلا حياتي، لا حق إلا حقي. مما يجعل كل تصرف، كل نزورة، كل استغلال وتسلط مبررا كجزء من قانون الطبيعة. فكلما تضخمت ذات المتسلط فقدت ذات التابع، المغلوب على أمره، أهميتها وقيمتها حتى تكاد تتلاشى إنسانيتها كلياً.

والواقع أن السيد من برجه العاجي لا يرى في الآخر المقهور إنساناً فعلياً له حقوقه الخاصة ومكانته المحترمة، بقدر ما يراه وسيلة لخدمته، بل يصل الأمر حد فقد التعاطف معه وعدم الإحساس بمعاناته وآلامه ومخاوفه وحاجاته..! وهذا ما يفاقم قسوته ضد من يخضعون له؛ إنها اللامبالاة تجاه معاناتهم.

ولا تتضخم الأنا عند السيد إلا بمزيد من ضخ وتغذية نرجسيته من خلال تسلطه وقمعه ورضوخ التابع، الشيء.

وهذا التابع أيضاً، يمارس في الوقت ذاته تسلطاً على منهم دونه قوة وقدرة، كما أشرنا آنفا، أو من هم تحت أمرته، مثل زوجته أو عائلته، أو تلامذته، أو موظفيه، أو عماله..إلخ. وهذا ما يعبر عنه في علم النفس السلوكي بـ"تفاقم مشاعر الإثم" من تراكم العدوانية المرتدة إلى الذات.

إن هذا الإسراف في تبخيس قيمة الإنسان المقهور يولد لديه إحساساً تاماً بالاستسلام لسطوة السيد، مستجلباً ذلك تبعية كلية تضمر أحياناً نوعاً من الإعجاب بقوة السيد، الإنسان الخارق، العالِم بكل صغيرة وكبيرة، الذي له حق يكاد يكون شبه إلهي في السيادة والتمتع بكل الامتيازات.

وتصبح هنا العلاقة بينهما، بين السيد والمسود، بمثابة علاقة رضوخ "مازوشي"، ويبدو ذلك واضحاً من خلال الاعتراف الضمني بحق المتسلط بفرض سيادته، وبالمقابل تبخيس الحق الشخصي.
ومن هنا تبرز حالات التزلف والتقرب، وتحقير الذات، طمعا في رضاه-أي السيد وتجنباً لغضبه ونقمته.

وفي حالات نادرة جداً، يتمرد التابع، ولكن ردة فعل السيد، المتسلط، تتخذ أشكالا عنيفة لدرجة تضمن ردعه تماماً، هذا فضلاً عن اتهامه بالجحود ونكران النعمة، وقلة الوفاء والولاء.

ويحدث أحيانا أن يلجأ الإنسان المقهور "للعدوانية الفاترة، أو الانتقام بأساليب خفية (الكسل، التخريب) أو رمزية (النكات والتشنيعات)"، فما يبدو رضوخاً ظاهرياً هو في كنهه يضمر عدوانية خفية.

يرى بعض المحلّلين النفسيين أن إحساس الإنسان المقهور بالعجز أمام المصير المهدد دوماً، وانعدام مشاعر الأمن تجاه القوى المسيطرة على حياته، يؤدي إلى بروز مجموعة من العقد تشكل حياة الإنسان المقهور، أهمها عقدة النقص، وعقدة العار، مع اصطباغ التجربة الوجودية بالسوداوية.

وهذه جميعاً تدفع الإنسان المقهور بدورها نحو الاتكالية النكوصية والقدرية الاستسلامية، وطغيان الخرافة على التفكير والنظرة إلى الوجود.

وهذا ما يؤكده أيضاً علم الاجتماع الحديث باعتبار الإنسان المقهور يرى في نفسه عدم القدرة على اجتراح الفعل، المبادرة، الاقتحام، لأنه يفتقر إلى ذلك الإحساس بالقوة والقدرة على المجابهة الذي يمد الحياة بنوع من العنفوان ويدفع إلى الاحترام والمجابهة.

وقد تبدو له الأمور و"كأن هناك باستمرار انعداماً في التكافؤ بين قوّته وقوة الظواهر التي يتعامل معها. وبالتالي فهو معظم الأحيان يجد نفسه في وضعية المغلوب على أمره".

افتقاده للطابع الاقتحامي في السلوك، جعله يتخلى عن المجابهة منسحباً أو مستلماً أو متجنباً، إما طلباً للسلامة وخوفاً من سوء العاقبة، أو يأساً من إمكانية الظفر والتصدي.

وبذلك يفقد موقفه العام من الحياة، الطابع التغييري الفعال، ويقع أسيراً لقوقعة التوقع والانتظار، والتلقي الفاتر لما قد يحدث.

ثم هناك انعدام للثقة بالنفس، إذ لا شيء مضموناً في وجوده؛ "فقدان الثقة هذا يعمم منه على كل الآخرين أمثاله من المقهورين. وهكذا يشعر أنه وإياهم لا يستطيعون شيئاً إزاء قهر الطبيعة وقوى التلسط".

ويصل الأمر حد انعدام الثقة بقدرة الجماهير على الفعل والتأثير، مما يلقي به بشكل نكوصي، في الاتكالية على منقذ خارق، أو التعويل على حدث غيبي يقلب موازين القوى.