كيف يفكر المجتمع السعودي؟ (1/3)

 

الشخصية الإنسانية وفقاً لعلماء الاجتماع، غالباً هي ممثلة للمجتمع، فالفرد والمجتمع وجهان لحقيقة واحدة، "هما توأمان يولدان معاً" على الرغم من الاختلافات الفردية الظاهرة، إلاّ أن الملاحظ أن هناك صفات مشتركة تجمع أبناء المجتمع الواحد.
صحيح أن التفاوت هو القاعدة، فلكل فرد من أبناء المجتمع سماته وشخصيته الخاصة، إلاّ أن ذلك التفاوت والتباين لا يعني عدم اشتراك أفراده في صفات عامة تمايزهم عن غيرهم من المجتمعات.

لذا يكثر في هذا السياق القول إن معظم أقوال وأعمال وأفكار وعقائد وقواعد الفرد جارية وفق ما يوحي إليه المجتمع الذي يعيش فيه.

يولد الطفل صفحة بيضاء ثم يبدأ التنويم الاجتماعي فعله، فمن خلال التلقين والإملاء والإيحاء والتكرار والتعزيز تتشكل الأفكار والعقائد والأعمال..إلخ.

فمنذ طفولتنا يعزز الإيحاء الاجتماعي في أعماق عقولنا الباطنة قيمه وقواعده وقوانينه وأعرافه، ونحن نسير على هديه من حيث ندري أو لا ندري.

ولا يعني ذلك أن الفرد يأخذ كل صفاته الشخصية من المجتمع الذي يعيش فيه؛ فهنالك أجزاء دفينة في أعماق كل شخصية لا يمكن أن تخضع لقواعد المجتمع أو تستجيب لإيحائه، وهي أشبه ما تكون بالبصمة الوراثية التي لها سمتها وطابعها الخاص جداً، وهذه الأجزاء على وجه التحديد تجعل كل فرد يختلف عن غيره في تكوين شخصيته رغم أنهما ينشآن في المجتمع نفسه.

فعندما نفحص مجتمعنا السعودي، نلاحظ أنه أنتج نماذج معينة من الشخصية تختلف، قليلاً أو كثيراً، عن المجتمعات الأخرى وحتى المتاخمة له، والمشتركة معه لغة وعقيدة. وقد نتشارك معها في شيء ونختلف في أشياء أخرى. ولذلك أسبابه ودوافعه ومحركاته.

الازدواجية
 نعود أطفالنا منذ نعومة أظفارهم على الازدواج من حيث لا ندري، عبر التلقين المشوب بالوعيد والتهديد، فيظهر أمامنا الطفل بشخصية الوقار والرزانة لكي تتناسب مع أذواق الكبار والعقلاء وشخصية أخرى في خلواته مع رفاقه أو مع هواجسه وأفكاره وبينهما حجاب.

يحتفظ الطفل بشخصيته المزدوجة التي نشأ عليها وتشربها تماماً في مختلف مراحل نموه الأولى حتى يكبر ويشتد ساعده، وتكبر معه شخصيته المزدوجة، فالازدواج صار شيئاً مألوفاً لا يستدعي الالتفات.

الوعظ شيء والممارسة شيء آخر.

فتجده يتقمص شخصية ما أو قناع، متناغماً بشكل تلقائي مع المؤثرات الخارجية؛ فمرة يكون زاهداً متنطعاً وأخرى متمرداً متهتكاً، حسب متطلبات الواقع ومحفزاته.

على الرغم من أن مجتمعنا غارقٌ حتى أذنيه في الوعظ والإرشاد الديني إلاّ أن الملاحظ إن انتشار، بل تفاقم حالة الوعظ الديني، ساهمت بشكل أو بآخر، في خلق حالة الازدواجية في شخصية المواطن السعودي، وذلك لأن الوعظ الديني التقليدي يجعلك مضطراً في أحايين كثيرة إلى أن تكون دينياً في جانب من حياتك، ودنيوياً في جانب آخر.

كأن ثمة علاقة سببية بين تفاقم حالة الازدواج في الشخصية السعودية وسيطرة الفكر الديني المثالي الذي يأمر ويحث الناس على الالتزام بمبادئ تتنافى مع حاجات الإنسان الطبيعية، فهذه المبادئ تريد من الإنسان أن يكون مثالياً ملائكياً متجرداً من نزعاته وأهوائه، بل من طبيعته البشرية لذا يحدث الازدواج عند أول مواجهة مع متطلبات الواقع وجموح رغبات الإنسان الطبيعية.

يقول بعض علماء التحليل النفسي: إن كثيراً من الشقاء الذي ينهش في نفوس بعض الأفراد، ينشأ من أنهم رسموا لأنفسهم مستوى شاهقاً رفيعاً إذا ارتقى أحدهم إلى منصب فلا يزال يرى أنه في مركز أقل بكثير مما هو جدير به، وكلما غمرته نعمة شعر بأنه أحق بما يفوقها درجات. إنه لايستطيع أن يتذوق طعماً للسعادة والرضا، بل أنه ليشع الشقاء على غيره، وينشر البؤس والتعاسة بينهم، بانتقاده المستمر لسلوكهم وتصرفاتهم مهما كانوا على خلق كريم.وقد يصبح هذا الشخص عصابياً..دائم السخط على المجتمع، لا يجد الفضيلة التي يهواها ويتعشقها ويعبدها، دون أن يمارسها في الغالب، نافراً من الناس، لأنه يشعر بأنهم أقل منه شأناً بكثير، وأحط من أن يمتزج بهم، أنانياً يعمل على أن يحقق رغابته الخاصة، إذ يراها أرفع الرغبات وأسماها، وأجدرها بالتحقيق دون سواها. ويرى نفسه في ذاته المثلى أعلم وأفضل وأرقى من في الوجود، بينما هو قد يكون في ذاته الواقعية أجهل وأرذل وأحط من في الوجود.

يفسر الباحثون هذه الظاهرة النفسية في بعض الأفراد بأنها امتداد لنوع المعاملة التي عاملهم بها والداهم عندما كانوا أطفالاً صغاراً "فبعض الوالدين يتطلبان من الطفل الصغير الكمال في كل شيء، في أعماله وسلوكه وكلامه، ويحاسبانه على كل هفوة تصدر عنه حساباً عسيراً. وينظران إليه كما لو كان راشداً متفهماً مكتمل العقل ناضج القوى" وهذا ما جعل أصحاب التربية الحديثة يدعون إلى تسهيل القواعد المفروضة على الطفل وإعطاء المجال لرغباته الطبيعية في أن تتحرر وتترعرع ضمن حدود معينة.

ويرى النحاس في كتابه "سيكولوجية الضمير" "إن شدة التربية والتزمت في التأديب كثيراً ما يؤدي إلى نمو خليقة الرياء والنفاق، حيث ينشأ الطفل مرائياً منافقاً، يقول ما لا يعني ويعني غير ما يقول، ويمارس ما لا يؤمن به، ويؤمن بما لا يمارسه".

ومن أسباب تفاقم حالة الازدواج أيضاً، تعزيز حالات الكبت؛ فالطفل عندما يبلغ الحلم، يكتشف أن المرأة محجوبة عنه، إنه فطرياً يرغب بها، يتوق إليها، ولكن التقاليد العريقة تفرض عليه نوعاً من الفصل العنصري، حجاباً حالكاً، إنه برزخٌ يحول بين تقارب الجنسين مقاربة طبيعية، فيضطره المجتمع تحت وطأة قيوده وسطوة أنساقه بأن يتظاهر بعكس ما يشتهي أو ما يبطن من رغبات، فإلحاح رغباته الفطرية من جهة، وإلحاح قواعد المجتمع من جهة أخرى، يؤدي غالباً إلى ما يعرف بالانحراف النفسي الذي يسبق، أو هو ربّما، الإرهاص الأول لتشكل الانحراف الجنسي.

يقول فرويد وأتباعه من علماء التحليل النفسي إن الإنسان إذا أحب شيئاً حبّاً شديداً وكبت هذا الحب في عقله الباطن، فإنه قد يلجأ في سبيل التنفيس عن هذا الكبت، إلى الشغب وشدة الانتقاد والاعتراض ضد نفس الشيء الذي يحبه.نلاحظ في واقعنا السعودي أحياناً في أشدّ خصوم الاختلاط بل ألد أعدائه، تعصباً مشوباً برغبات جنسية عنيفة تجاه المرأة. ألا نلاحظ كيفية سلوك أحدهم حين يتعصب ضد أشياء يكرهها ولا يتوانى عند كل مناسبة في التشنيع عليها؟

أليس هذا السلوك يشي بأنه في عقله الباطن يحس ميلاً مكبوتاً نحو هذه الأشياء نفسها؟

يمكن الاستنتاج بأن الذي ينتقد غيره انتقاداً عاطفياً لاذعاً، إنما هو ينفس عن عاطفة مكبوتة، وكثيراً ما يذم أحدهم شيئاً يراه في غيره فإذا حللنا وسبرنا أغوار نفسه وجدنا أنه يحب ذلك الشيء حباً جماً، بيد أنه عجز عن نواله فيعوض ذلك الحرمان بانتقاد من ناله وبالتهجم عليه تنفيساً عن حرمانه المكبوت. إضافة لكبت بعض الدوافع النفسية والتظاهر بعكسها يؤدي أحياناً إلى ازدواج الشخصية.

إن العقل الباطن إذا احتبست فيه شهوات ورغبات يحملنا المجتمع على إنكارها، تطغى بنا أحياناً فننسى شخصيتنا المعتادة ونبرز في شخصية أخرى للتنفيس.

إن محاولة الإنسان التوازن بين رغباته الطبيعية العارمة، وقواعد المجتمع التي يتبناها ضميره، ليست بالأمر الهين، بل هي أمر بالغ الصعوبة، وكثيراً ما يفشل الإنسان في نوال هذا التوازن بين هاتين القوتين المتعاكستين، أو في ضبطه مدة طويلة.

فهؤلاء الذين يثورون غضباً ضد الاختلاط، أو ضد حجاب المرأة، إنما هم نتيجة حالات الكبت العنيفة لغرائزهم ودوافعهم العارمة التي توشك أن تجمح بهم وتقذفهم إلى مهاوي "الرذيلة" إذا ما حدث ما يخشونه.

فليست دافعية هذا الخوف طغيان الفضيلة أو الصوفية في دواخلهم، بقدر ما هو محاولة لِلجم الوحش الجنسي المقيد عنوة في دواخلهم المستعرة ناراً.

وكم في نفوسنا من عقدٍ وكوامن مكبوتة تحاول الظهور تحت أقنعة شتى تتخذ أشكالاً متباينة، منها الانتقاد اللاذع والشغب وشدة الاعتراض وقسر الناس على تقمص الفضيلة كما نؤمن بها طمعاً في استمرار تقييد الوحش الجنسي في دواخلنا وليس حرصاً على حماية الآخرين من براثن الرذيلة!