مقبرة؟! معقول؟!

 

تَصدُم الإنسانَ أحيانا بعضُ الوقائع التي تبلغ حدا من اللامعقول حتى إنها لتصعب على التصديق. ومن تلك الوقائع غير المعقولة ما ذكره الشيخ محمد الصفار في تعقيب بعنوان "الشعب يريد أرض مقبرة" رد فيه على مقال تحريضي على مواطنينا الشيعة كتبه أحد المحرضين المعروفين على كل من لا يتفق معه من مكونات وطننا الفكرية والمذهبية، ونشرته إحدى المجموعات البريدية التي تزكم الأنوف دائما بما تنشره من مشاركات تبلغ حدا بعيدا من هجر القول وفجاجة الرأي والتأسيس للضغينة.

ولا أريد التوقف هنا عند آراء ذلك المحرض التي تدعو للتفرقة والإقصاء والتشكيك في ولاء مواطنينا الشيعة الذين يمثلون مكونا مهمًّا من مكونات الوطنية السعودية. لكني سأتوقف فقط عند أمر مفزع ذكره الشيخ الصفار، في معرض تعقيبه على تشكيك ذلك المحرض بولاء مواطنينا الشيعة لوطنهم. ويتمثل ذلك في أن المواطنين المسلمين الشيعة الذين يسكنون الدمام، ويصل عددهم إلى مائتي ألف، لم يسمح لهم بالحصول على قطعة أرض يدفنون فيها موتاهم مما يضطرهم إلى نقل المتوفين إلى الأحساء التي تبعد 140 كيلا لدفنهم. هذا على الرغم من الجهود العديدة التي بذلوها، على المستويات كافة، ومنذ سنين، في طلب تحقيق هذا المطلب الشرعي البسيط. بل لم يتحقق لهم ما هو أقل منه، وهو أن يقتطع جزء من مقبرة قائمة يدفن فيها موتى السنة لتخصيصها لموتاهم، وهو ما واجه المصير نفسه.

وتنبئ هذه الحال عن مستوى من التمييز غير مقبول ضد الموتى الشيعة من المواطنين السعوديين. وليس هذا النوع من التمييز مقصورا على الدمام بل نجده في مناطق أخرى. ومن ذلك ما نجده في المدينة المنورة. إذ يُقابل الباب الشرقي لمسجد قباء مقبرتان مسوَّرتان يفصل بينهما ممشى عريض إحداهما للشيعة والثانية للسنة. والمثال الآخر الأكثر دلالة على هذا التمييز أن موتى الشيعة لا يصلى عليهم في الحرم النبوي الشريف، ويدفنون في مكان مخصص لهم في البقيع.

ومن المؤكد أن هذه الممارسات المستنكرة ليست وليدة اليوم، بل هي قديمة تأسست على الصراعات الطائفية المقيتة بين السنة والشيعة التي استمرت قرونا. وربما يمكن فهم بقائها في عصور الجهل وحقب الصراعات المذهبية وانكفاء أتباع كل مذهب أو إثنية على أنفسهم.

أما المستنكر فهو استمرارها في عصر الدولة الوطنية التي تقوم، في المقام الأول، على المساواة بين مواطنيها على كل صعيد. ويتأكد وجوب هذه المساواة في بلادنا خاصة في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ـــ رعاه الله ـــ الذي هدم الحواجز الوهمية بين المواطنين السعوديين بتأسيسه للحوار الوطني والاعتراف العلني بحضور المكون الشيعي في وطننا من خلال استقباله للمواطنين السعوديين الشيعة في مجلسه.

ويجب أن يَستنكر بقاء هذه الممارسات التمييزية كلُّ حريص على قيم المواطنة وعلى المساواة في الحقوق بين المواطنين بغض النظر عن الفوارق بينهم، ويجب أن يستنكره كل حريص على الاندماج الوطني الذي يعد الأساس القوي للدولة المعاصرة. وربما لا يحس بعض المواطنين السعوديين السنة بالمرارة التي يحس بها مواطنونا الشيعة نتيجة لهذه الممارسات التمييزية. لكن من السهل اكتشاف هذه المرارة، مثلا، من قراءة تعقيب الشيخ الصفار الساخر الذي ينضح ألما وحرقة من هذا التمييز.

والسؤال الممضُّ هو: ما الأسباب التي تقبع وراء هذه الممارسات؟ فهل يعني منع دفن موتى الشيعة في مقابر السنة حكما عليهم بالكفر؟ أم يعني ذلك خوفا أن يشملهم دعاء زوار تلك المقابر للموتى بالرحمة والمغفرة؟ أم يعني عدم دفنهم في مقابر السنة تنزيها للموتى من السنة عن مجاورتهم حتى وهم عظام نخرة ــ كما هو التعبير القرآني الكريم؟ وهل يعني عدم تخصيص مقابر لهم في بعض المدن تنزيها لتلك المدن عن رفاتهم؟ أم يعني ذلك كله الخوف من أن تثور بينهم وبين الموتى السنة بعض المشكلات ــ كما يسخر الشيخ الصفار؟!

لكن القول بأن هناك سببا وجيها لعزل الموتى الشيعة عن السنة ليس إلا وهْما. ذلك أننا نعلم يقينا أن الموتى، سواء أكانوا شيعة أم سنة، لا يمثلون خطرا على الموتى الآخرين المجاورين لهم؛ فهم يتحولون سريعا إلى تراب يختلط بالتراب الذي يغطيهم. كما أنه لا خطر من اختلاط الشيعة بالسنة يوم البعث؛ ذلك أن الموتى يُبعثون يوم القيامة فرادى ويكون كل منهم مشغولا بنفسه عن الاهتمام بالآخرين ــــ حتى أقرب الأقربين.

والخطر في هذه الممارسات المستنكرة أنها تأتي في مقدمة الأسباب التي يتذرع بها المتربصون بالمملكة لكي يصنفوها في أول قائمة الدول التي تميز بين مواطنيها في المسألة الدينية.

والأخطر من ذلك أن التمييز ضد موتى الشيعة يعني أن هناك تمييزا حقيقيا ضد الأحياء منهم. ومن البداهة بمكان أن غير من الممكن لمن يقع ضحية لأي نوع من التمييز أن يشعر بولاء لمن يمارسون ذلك التمييز ضده. لهذا فإن الولاء ليس أمرا مجانيا أو لازما؛ بل هو في حقيقته يأتي مقابلا لحفظ الحقوق والمساواة ولعدم التمييز ضد أي مواطن لأي سبب، ومن ذلك معتقداته الدينية.

ويجب ألا يسبق إلى الظن أن القصد من القضاء على التمييز ضد مواطنينا الشيعة في هذا الشأن وغيره هو "رشوة" لهم لكف "خطرهم". بل يجب النظر إليه على أنه حق من حقوقهم لا يحق لأحد حرمانهم منه أو التمييز ضدهم بسببه. فأول الشروط لضمان الولاء للوطن إعطاء المواطنين حقوقهم المشروعة وعدم النظر إليهم على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية أو أقل.

ومن العجيب، في هذا السياق، أن يشنِّع بعض المتحمِّسين على الحكومة الإيرانية في كل مناسبة بسبب تمييزها ضد مواطنيها السنة بحرمانهم من بناء مساجد لهم وممارسة ما يعتقدونه في مذهبهم والتضييق عليهم بطرق شتى وحرمانهم من الوظائف العليا في الدولة. وكان يجب على هؤلاء المغرمون بمثل هذا التشنيع أن يطبقوا معيارا واحدا في الحالتين: أي ألا يقترفوا هم أنفسهم، أو يشجعوا، الممارسات التمييزية نفسها التي يستنكرونها على الحكومة الإيرانية.

إن الأمل معقود بخادم الحرمين الشريفين ـــ حفظه الله ــ ليضع ـــ كما هي عادته ــ حدا لمثل هذه الممارسات التمييزية ضد مواطنينا الشيعة. وربما يتحقق ذلك بحض علمائنا الأفاضل في هيئة كبار العلماء خاصة على دراسة هذه الممارسات غير المقبولة دينيا ووطنيا والإفتاء بما يؤول إلى إزالتها. وسيكون من نتائج القضاء عليها القضاء على أحد أهم أسباب الشحناء بين المواطنين التي تقوم على أسباب واهية لا مكان لها في دولة عصرية مثل المملكة التي تحترم مواطنيها جميعا بغض النظر عن خياراتهم المذهبية.