صراخ المجانين
لعلّ من تفردات السيرة التاريخية القول بالثوابت والإصرار عليها، ويدلل التاريخ هذا الإدعاء بسيرته الزمانية وينبغي لمن أراد إثبات أو نفي هذه الحقيقة التاريخية العكوف على مراجعة عميقة لأحداث بعينها وتتبع سيرتها لمئات السنين لتأكيد الحقيقة المدعاة أو نفيها .
كما أن القول بالحقائق التاريخية الثابتة التي تدعي أن التاريخ يعيد نفسه في بعض جوانبه، أو تقول بتكرار الأدوار والأدوات المتبعة في سيرة ما لها ما يؤكدها في سيرته الطويلة، وهي تقول بتكرار الأدوار والأدوات عند تكرار الأحداث وهي كثيرة ومتعددة ويمكن للباحثين اختيار أحدها وتتبعه وأخذ الشبيه ومطابقة الأدوار والأدوات وتحليل النتائج ولربما كانت سيرة الأنبياء والرسل – صلوات الله عليهم أجمعين – التاريخية واستخدام ذات الأدوات في المواجهة وكذا الأدوار، يتخذه البعض دليلاً على إثبات ماذهب إليه بعض المتخصصين في علم التاريخ ويدعون أنها من الثوابت التي لا تقبل النقيض .وإذا كان هذا الإدعاء صحيحاً فإن من يقول بخلاف ذلك قد دفع ضريبة غالية الثمن ولربما تمثلت في مستقبله الثقافي أو الاجتماعي أو الديني – إذا كان من أتباع المدرسة الدينية – وإن خسارته الثقافية والزمنية التي ربما كلفت سنوات عمره ذهبت أدرج الرياح لسقوط دعوته الثقافية المدوي الموجهة في الأساس لسيرة التاريخ حيث تنتهي عادةً – حسب أدعاء المؤرخين – لما انتهى إليه كل المخالفين لسيرة التاريخ ولعبوا أدواراً واستخدموا أدوات أثبت التاريخ سقوطها في كل مرة .
ويبرز التحدي الأكبر للمراهنين على إعادة الأدوار والأدوات التاريخية في مفردة أقر التاريخ بفشلها في تحدي التاريخ نفسه، والمراهنة على الزيادة العددية في الفتك الثقافي أو العسكري، وإعلان الجبر سلاحاً قاسياً لزيادة فرص النجاح، وهذه الزيادة ملحوظة للمتابعين والمحللين إلا أنها وفي كل مرة تعاد التجربة يثبت التاريخ فشلها من جديد ويدفع المراهنين على هذا الخيار ثمن مغامرتهم المجنونة إسقاطهم من أعلى القمة السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية السامقة إلى مهاوي الحفر المظلمة .
وبين الفينة والأخرى يدعو بعض المثقفين لإعادة التجربة ومحاولة نفي الحقيقة التاريخية التي ربما للتو قد وقعت وأقر أتباعها بفشلها والاعتراف بحقيقة التاريخ، إلا أن إصرارهم في خوض التجربة من جديد ودعواهم أن الفشل المتحقق في التجربة السابقة كان نتيجة بعض الأخطاء التنفيذية وإن دراستهم للتجربة السابقة بصورة دقيقة وتحديد نقاط الخلل سيؤدي لتحقيق الهدف الذي فشلت التجربة السابقة في تحقيقه .
يقول بعض المؤرخين : إن محاولة البعض تحدي التاريخ وإعادة إنتاج التجارب الفاشلة من جديد لا يصدر إلا من الجاهلين بالتاريخ وهم لايعدون سوى ثلة من (المجانين) و(المغامرين) الذين يخطون نهايتهم السوداء الحتمية بأيديهم ثم يعلنون أنهم انتصروا ولايقرون بالفشل الساطع كنور الشمس لأنهم (مجانين) كما يدعون . وفي واحدة من تلك التحديات التاريخية يظهر بين المثقفين الشيعة بين الحين والآخر من يدعو لمحاربة بعض المفردات الدينية الثابتة في محاولة جديدة لمواجهة الحقيقة التاريخية والتي أعاد الكثير على مر التاريخ تلك التجربة وفي كل مرة يثبت التاريخ من جديد أنها فاشلة .
ولو رجعنا قليلاً لسيرة التاريخ في مفردات المذهب الشيعي فسوف نقف أمام تجارب ضخمة سجلها التاريخ على مدى أكثر من ألف سنة وأثبتت في كل مرة فشلها وسقوطها، وقد أخذت تلك التجارب أشكالاً متعددة ثقافية واجتماعية وسياسية وعسكرية إلا أنها جميعاً فشلت وسقطت ولم تتمكن من تحقيق حتى بعض مآربها البسيطة حيث تأتي الموجة التالية لتقول بفشل التجربة وثبات المفردات في موقعها دون أدنى تغيير .
لقد شهد التاريخ الشيعي حروباً طاحنة أخذت صوراً متعددة ابتداءاً من الدور الأموي وحتى عصرنا الحاضر وفي مفردة الشعائر لوحدها مارست الدول عبر التاريخ أقسى أنواع الترهيب علّها تحظى ببصيص أمل في عزل المجتمع الشيعي وإقناعه بالكف عن ممارسة شعائره الدينية إلا أن جميع محاولتهم باءت بالفشل وتحطمت على صخرة الصمود العقدي لدى المجتمع الشيعي، وهي لم تستثنِ من ذلك دفع الضرائب العالية وإخضاع البعض للسجن والتعذيب وقطع الأيدي وانتهاءاً بقطع الأعناق إلا أنها جميعاً سقطت أمام تحدي المجتمع الشيعي وإصراره على ممارسة شعائره الدينية .
إن المشهد اليوم يحكي قصة الأمس بكل تفاصيله، والأدوار تعيد نفسها والأدوات هي الأدوات والنتائج وكما يقول التاريخ هي النتائج أيضاً وليس تسخير بعض الأقلام الشيعية لصالح تنفيذ التجربة الفاشلة طارئً على المشهد الشيعي، ولربما قرأ أصحاب الأقلام النتائج التاريخية مبكراً لكنهم أيضاً ينظرون للجانب الآخر من السيرة التاريخية التي تقول بأهمية المال واستغلال المرحلة والعمل على تضخيمها حتى تسيل الأموال سخيةً في جيوبهم وهم على يقين بأن التجربة فاشلة ولن تحقق أهدافها، وفي المقابل يرى هؤلاء أن عدم السير في المشروع السياسي الذي يرى ضرورة تكرار التجربة ويراهن على نجاحها خطأ كبير أيضاً، وعلى العقلاء من أصحاب الأقلام السير في أجندته وحصد الفوائد المالية والحصانة الحكومية .
ولا يخرج عن هذا الإطار أيضاً المثقفين أصحاب النزعة العلمانية و اليسارية والتي ترى أن هذا التصادم بين السلطة السياسية والقوى الدينية الشيعية مناسبة لتحقيق أجندة ثقافية طالما فشلت في تسويقها حتى مع دس السم في العسل، عبر اللعب على التجاوزات في بعض المفردات الدينية والتي تصدر من رجال الدين ودعوة المجتمع الشيعي للاعتراض على المفردة بذاتها ومطالبة رجال الدين الشيعة بالكف عن ممارسة الدور الديني ووصفه بالتجهيلي والاستغلالي علّها تحظى بشيء من التأييد والدعم الاجتماعي، وهذا لايعني أنها منساقة وراء الخيار الحكومي إلا أنها تحاول الاستفادة من حالة التنافر والرقص على المفردات الأكثر حساسية والتي يعزف بعض المجتمع الشيعي عن الالتزام بها حتى مع إتيانه بالمفردات الأخرى بكل دقة .
ولعلّ البعض يرى أن مناداة بعض رجال الدين الشيعة بتغيير آراء دينية وفي جزئيات تخدم مشروعهم الوحدوي العصي عن التحقق بين الطائفتين وبالأحرى بين الشيعة والسلفية ويعدها علامة تحول نحو تحقق الأهداف ويبني هذا الاعتقاد لخروج الحراك الثقافي من إطار المجتمع العام إلى الحراك النخبوي والذي يحاول تقديمه بأعلى درجاته لشموله بعض رجال الدين ممن يصفهم بالمتنورين، وبهذا الطرح يرى أن الحراك الثقافي الاجتماعي الواسع في بعض الأحيان والمحدود في الكثير من حراكه والذي يأخذ حجماً إعلامياً أكبر من واقعه ليؤدي رسالة للآخر المعارض لهذا النهج مفادها أن المستقبل الديني والثقافي هو من نصيب الداعين لخوض التجربة .
إن التاريخ يرى فشل التجربة الحتمي ويدعو إلى الاستفادة من سيرته السابقة مع كل التفاؤل الذي تبديه الأحداث الاجتماعية وتشجع عليه السلطة السياسية، ويدعونا لمراجعة التجربة التاريخية القريبة منا زمنياً وجغرافياً ونتائجها المخيبة للآمال فقد سقط البعث وبعيداً عن الغور في أسباب سقوطه إلا أن الحقيقة الناصعة أن ثلاثين سنة من العمل الثقافي المضاد والعنف العسكري وأنواع التعذيب والترهيب التي مورست فشلت جميعها في ثني المجتمع الشيعي عن مبادئه وعقيدته وأعلنت منذ اللحظة الأولى لسقوط البعث عن فشل التجربة وانتصار التاريخ، فهل صدق من قال أن المجانين فقط هم من يحاولون إعادة التجربة التي أثبت التاريخ فشلها ؟