إننا ندفع ثمن إقصاء الغدير
إذا ما أراد الإنسان أن يتحدث عن علي بن أبي طالب فإن فكره يتعثر وينهزم ودماغه يذوب ويتراجع واليراع يتلكأ ويقف أمام إنسان فذ ، قوي ، كبير، شامخ ،عملاق ، شجاع وأمام وجود هائل من التألق والإشراق وأمام حياة زاخرة بالفيض والعطاء، و أمام صبرٍ عجز نفسُ الصبرِ أن يصبر على ما صبر عليه من البلاء، إنه إنسانيةُ وشجاعةُ وتألقُ وعطاءُ علي . أرغم أمير المؤمنين-ع- التاريخ أن يسطر أروع صفحات التضحية باسمه في العلم والشجاعة والبطولة ناهيك عن الزهد والجود والورع عن محارم الله ، فهو عبد من عبيد محمد. زهده هذا لم يُقصِه عن الناس ويحبسه في داره - كما يتوهم البعض -،ولا عِلمه عن أن يعايشهم أبسط أمور الحياة ، وما استخدم يوما جوده لاستدراج ومؤازرة ونصرة الناس له، ولا أجازت له شجاعته إراقة وسفك دماء الأبرياء.
أخفى أحباب علي ومن والاه فضائله ومناقبه خوفاً على أنفسهم من أن تنالها أيدي الغدر والخنوع، كما أخفى أعداءه فضائله أيضاً لإقصائه عن ساحة الإيمان و إمرة المؤمنين بلعنه على منابرهم 80 عاما والتنكيل بمحبيه حتى أن عبد الله بن عمر لم يستطع أن يروي في عهد أبيه عمر حديثاً واحدا عن رسول الله ولكن (يرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)[1] .أرادت المشيئة الإلهية أن يخرج من بين الفريقين من فضائله ملأ الخافقين.
تمت مراسم تنصيب علي بن أبي طالب في خيبر سنة 10 هـ من قبل رسول الله وبايعه المسلمون رجالاً ونساء بما فيهم أزواجه بإمرة المؤمنين في خيمة نصبت له على أثر نزول الآية: (يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)[2] .
وكان ممن بايعه : أبو بكر بن أبي قحافة ، وعمربن الخطاب، وعثمان بن عفان، وأبو هريرة ، وعائشة ، وأُسامة ، وأسماء بنت عميس ، وأم هاني بنت أبي طالب، وحسان بن ثابت، وجندب بن جنادة ، وسلمان، وطلحة بن عبد الله، وزبير بن العوام ، وخالد بن الوليد وغيرهم[3] . وبعد مراسم التنصيب والبيعة لعلي نزل جبرئيل بالآية على رسول الله (..اليوم):( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلَـمَ دِيناً)[4] .
إن الأحداث الأربعة تحققت كلها في غدير خم حيث أعلن رسول الله خليفته لمستقبل الأمة رسمياً علناً وجهارا ، ولأن كثيرا منهم يطلبون علياً بأوتار الجاهلية ويريدون أن ينضب الإسلام بموت الرسول " يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ" حين تم الإعلان عن خليفة الله في أرضه[5] .
أما الحديث عن الثلاثة الأخر من إكمال الدين وإتمام النعمة والرضا عن الإسلام كدين يتعبد به للوصول إلى الله للفوز بجنته ورضاه، فالدين وما يحويه من فرائض كالصلاة والصوم وغيرها كان موجوداً قبل الغدير ولكن كان ناقصاً فكمل بالغدير، حيث الولاية آخر فرائضه التي نزلت على الرسول ، وكذلك النعمة موجودة ولكن الغدير العذب أتمها، أما دين الإسلام فغير مقبول أصلا إلا به. فصلاة الظهر ركعتان باطلة غير مقبوله لأن المصلي أنقص ركعتين في الصلاة ولا يمكن أن نعطيه نصف الثواب فالبطلان يقتضي الحرمان من الثواب كله، وكذلك دين الإسلام غير مقبول إذا ما تعبد به بدون الغدير لأن المتعبد أنقص جزءًا رئيسا من الدين وهو الولاية.
كان هذا إعلاناً صريحاً من الله و رسوله وتطبيقاً عملياً طبقه أصحابه ببيعتهم لعلي بإمرة المؤمنين بعد الرسول الأكرم ولكن الأمة تناست البيعة وضيعت الوصية واكتفت بكتاب الله. إنها في الحقيقة رتبت الأحداث من جديد بعد رسول الله إلى يومنا هذا بل إلى المستقبل كله شاملةً المآسي والمصائب والمجازر والكوارث، واختارت طريقا ملتوياً للوصول إلى الإسلام كان من تبعاته إقصاء علي عليه السلام وعدم الدخول من بابه ولكن فليشرقوا وليغربوا فلن يصيبوا العلم إلا من أهل بيت نزل عليهم جبرائيل[6] .
إنهم بكلمات أخرى مهدوا للخلافة بعد رسول الله على غير ما أراد الله- عز وجل- ثم الدولة الأموية فالعباسية و.. و... بكل التبعات وبأدق التفاصيل إلى أن نصل إلى ما نحن عليه في الوضع الراهن من فلسطين وعراق وافغانستان ورأسمالية عالمية وسياسة استعمار واستعلاء وتجسس وفقر مدقع وسباق تسلح. وما أشف من صورة العراق الجريح حين ننظر اليها لنرى أننا لازلنا نعيش في عصر تكفيريين وإرهابيين يرفضوا الغدير، وما هؤلاء إلا امتدادا لئلائك الذين بايعوا عليا ثم رفضوه. فلا يزال صراع الغدير قائما بين محبي علي وبين أعدائه.
بعد أن أقصوا الغدير عملياً بدأت الحروب تلوا الحروب والنزاعات تتلى النزاعات والقتل غير المسئول والظلم يحيق بأمة الرسول ، فلا تكاد صفحة في التاريخ إلا وتزخر ببقع من الدم منذ أن بدأت الخلافة، وما هذه الحروب التي نعيشها والظلم إلا تبعات لتلك الحروب وذلك الظلم، وكله بإقصاء الغدير. وحتى الحروب التي فُرضَت على الامام عليه السلام حين استلم الخلافة بعد 25 سنة من التقهقر و الانتكاس السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي وحتى الثقافي وتبعات ذلك من تقريب الأمويين للسلطة كانت للسبب نفسه .وبعبارة أخرى " إن الهدف الذي سيظهر من أجله الإمام المهدي -عج- كان سيتحقق على يد الإمام أمير المؤمنين-ع- لو استقاموا على دين النبي- ص- وأتمروا به[7] ".
قال الإمام علي : "ولو أن الأمة بعد قبض رسول الله - ص- اتبعوني وأطاعوني لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم رغدا الى يوم القيامة[8] "
الرغْدُ: الكثير الواسع الذي لايُعْييكَ من مال أو ماء أو عيش أو كلأٍ [9] .
لو أنهم اتبعوا عليا لكانت دولته بلا ريب امتدادا دقيقا لدولة رسول الله - ص- ولكان الناس في رغداً من العيش إلى يوم القيامة متساوون في كل خيرات الأرض. وهذا معناه-أي إلى يوم القيامة- أن الناس تعيش في ظل دولة علي وما بعدها إلى يوم القيامة في رغد تام من العيش.ومقتضى ذلك اتباع الناس لخط المسيرة الإلهية المتمثل بأهل البيت عليهم السلام جميعا. إذاً لا ظلم ولا استعلاء ولا حبس الأموال ولا تجويع الشعوب ولا انتشار المقابر الجماعية بلا أدنى رحمة وبدون أي حساب مطلقاً ولا...ولا.
والغدير درس لكل حكام العالم اذا ما أرادوا أن يعوا درسهم ويرحموا شعوبهم، فثقافة الغدير تقتضي التنازل عن الحكم إذا كان على حساب جُلب[10] شعيرة يُسلب من نملة لأنه معصية في هذه الثقافة، فما بالك بتجويع شعوب في ظل عالم يزخر بالخيرات التي تكفيه كله. كما إن احتمال وجود جائع تحت ظل دولة الحاكم يقتضي في ثقافة الغديرعدم نوم الحاكم ممتلئ البطن ، وغيرها الكثير.
إن الغدير العذب ثقافة ممتدة ليوم القيامة لمن يريد أن ينهل منها ويطبقها، فتعال لأصحاب علي كالمقداد وأبو الأسود الدؤلي وسلمان وأبا ذر ومالك الأشتر وغيرهم من الذين فهموا هذه الثقافة وطبقوها في حياتهم. وحري بنا أن ننهل من هذا المعين العذب، فلنحاول فهم الغدير كما أراده رسول الله ونعرّف به وننشر ثقافته للعالم كله.