الاعتراض الرقمي من الشاشة إلى الشارع في السعودية

صحيفةالسفير

الاعتراض الرقمي digital protest في وجهته السياسية، يعني استعمال نظام الإرسال الإلكتروني لإطلاق موجة عارمة من الرسائل الاحتجاجية على تصرّفات جهة ما، غالباً ما تكون حكومية، إن لم تكن ضد حكومة ما بذاتها. ويدخل في نطاق الاعتراض الرقمي، تنظيم الحملات الإلكترونية لناحية استدراج توقيعات أعداد كبيرة من المتضامنين مع قضية خاصة أو عامة ذات طابع حقوقي. ويتقاطع الاعتراض الرقمي مع، إن لم يكن يجسّد، فكرة النشاطية السياسية الرقمية digital political activism، حيث يخوض شعب ما ثورته الافتراضية على الشبكة العنكبوتية قبل نقلها الى الواقع الشارع. وقد بلغت البشريّة، بسبب الثورة الرقمية، خصوصاً من خلال كونية الانترنت، درجة متقدّمة من التجانس الثقافي، فقد تحقّقت فكرة تبادل الخبرات والتجارب بسرعة قياسية بين شعوب الشبكة الإلكترونية، وصار بإمكان أي جماعة مهما كانت درجة فقرها الثقافي والسياسي هضم أشد الدروس تعقيداً في الاحتجاج الرقمي، بما يذكّرنا باللعبة الشعبية في الصين التي تدعى «النجاح في الوظيفية» والتي تتيح لكل فرد يريد أن يكون موظفاً، في زمن لم يكن في استطاعة كل فرد أن ينال ما يريد، أن يكون بمقدوره أن يحلم بذلك، والتي انتقلت الى المجال الثقافي، بحيث جعلت الشعب الصيني قادراً على الحصول على نصيبه الثقافي، بما أدى الى خلق تشابه كبير في النظرة العقلية وسط الصينيين مع تفاوت في التفكير بين، على سبيل المثال، العالم والفلاح.

الحماسة البهلوانية التي تندلع في تصريحات المسؤولين في الإدارة الأميركية إزاء «حرية الانترنت»، والتي أدرجت في أولويات السياسة الخارجية لإدارة الرئيس أوباما، لا تبدو بريئة ولا محايدة تماماً، فلعبة «التسييس» تمارس اليوم على نطاق واسع، وليست مقتصرة على «المحكمة الدولية في لبنان». فالحرية الالكترونية، كما الدمقرطة، تصبح فريضة أميركية حين يتعلّق الأمر بخصوم أميركا في العالم مثل إيران والصين، ولكنها تصبح وثناً يعبد، من دون الولايات المتحدة، في حال أصبحت مطلباً شعبياً في دول حليفة لها مثل السعودية ومصر أو الأردن..«هل من نبأ عظيم عن موقف أميركي إزاء العجز الديموقراطي في هذه الدول؟!».

لعل فظاعة الحياة الرهيبة في كوكبنا ما انكشفت أبداً بمثل هذا الصدق ولا كشفت عن ألوانها القاتمة إلا في ظل الثورة الرقمية، فقد تعرّف العالم على ميل حثالة من البشر الى الفتك بكل صور الجمال الإنساني، وتبجيل الأفكار الرثّة التي تميل بالإنسان الى الانسجام مع نقيضه القيمي. ولا يمكن لإمبريالية ثقافية أن تتحطم أمام أعيننا لولا التجابه المميت بين ما هو إنساني مجرد، وبين ما هو إعادة إنتاج لكائن، بسمات وراثية للاستبداد الشرقي، الذي قارنه هيغل ذات جدل بالديموقراطية اليونانية.

إن أرقى ما تصنّع رقمياً خلال العقد الأخير، أن ثمة عالماً بهوية مفتوحة يعبر كل دوائر الانتماء الفرعية والكلية ليؤسس في مكان ما لا يزال حتى الآن مجهولاً، لكيانية هي الأخرى لا تزال مفتوحة، ولكنها تبطن شروط إنضاج لعملية تغيير واسعة النطاق. ثمة تصدّعات وانهيارات في البنى التحتية والفوقية في السعودية لا يدرك مداها ولا تداعياتها إلا الراسخون في العلم بخبايا الفساد المالي والإداري، وأشكال العصيان الاجتماعي والثقافي، وظواهر التمرّد على القانون العام، وسقوط «التابوات» المريع «في زمن الانترنت تعرّف العالم على ظاهرة إلحاد في السعودية غير مسبوقة، كما تعرّف على أسرار المجتمع الديني المحافظ عبر الأدب الروائي الفاضح».

في المشهد الالكتروني السعودي، تكشف المعطيات الرقمية عن تطوّرات بالغة الأهمية. فقد ارتفع عدد مستخدمي الإنترنت في السعودية من 200 ألف في العام 2000 الى 11 مليون مستخدم هذا العام «2010»، بحسب معطيات صادرة عن هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات في السعودية. وتمثّل شبكة الانترنت، بما تتيحه من مساحة واسعة للتعبير عن الآراء الخاصة إزاء سياسات الحكومة، وسيطاً نموذجياً لأشكال مفتوحة من النشاطات الاحتجاجية ذات الطبيعة السياسية، والاجتماعية، وحتى الأيديولوجية. وجود منتديات حوارية تديرها جماعات من لون واحد أيديولوجي، أو اجتماعي، أو سياسي يسهّل في الغالب تنظيم حملات الاعتراض الرقمي، فثمة سهولة رقمية في التعبئة والحشد تتيح لجماعات متفرقة الأهواء والمشارب تلبيد الكون الالكتروني بغمامة من الرسائل الاحتجاجية على أمر ما أو الدفاع عن قضية معينة. نشير هنا الى أن السعودية، من بين دول الشرق الأوسط قاطبة، تحوز على أكبر عدد من المنتديات الحوارية، وأكثرها نشاطية وارتياداً، ويلفت ذلك الى القدرة الكامنة لحملات الاحتجاج الشعبي على الشبكة العنكبوتية.

على سبيل المثال، تناول برنامج «صباح السعودية» في 30 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، موضوع البطالة بجرأة غير مسبوقة، فانتهى الى فصل جماعي لفريق العمل في البرنامج، وشجّع ذلك على إطلاق حملة تضامنية مع معدّة البرنامج هدى الحامد. وتحوّلت مواقع اجتماعية عالمية مثل «فيس بوك» و«تويتر» ومواقع أخرى أقل شهرة إلى ساحات عامة لتظاهرة الكترونية من قبل فريق من الإعلاميين المحليين والمتضامنين من السكّان المحليين، ضد قرار الفصل التعسفي الذي طال فريق البرنامج. ولاريب أن حراكاً متجاوزاً، بالمعنى الجغرافي للكلمة، بهذا النمط غير المسبوق يبشّر بصورة الخلق القادم عمّا قريب، حين تبدأ لحظة الانسلاخ الفعلي من القوالب الميّتة، كما شاءت لها ذرية من الفلاسفة الواقعيين، وتنطلق عملية التدمير المنظّم لكل الأطر التقليدية، سياسية كانت، أم اجتماعية، أم ثقافية. لقد غدا العالم مليئاً بفائض من أساليب الالتفاف على الرقابة، بالرغم من شبكة المصائد المزروعة في الفضاء الاتصالي لجهة تعطيل فعل الوعي. ولكن لأولئك الذين عقدوا العزم على الإمساك بطرفي الحرية والقمع أن يتنازلوا عن الخاتمة المنطقية أي التخلي بصورة جذرية عن كل قوانين الانسجام بين الطبيعة والإنسان، والتي تخلص الى أن الأحرار كما الأيقاظ ينتسبون إلى عالم مشترك، كما قال هيرقليطس، أما القمع فينتمي إلى عالم خاص، يقتصر على فئة الطغاة. ومهما قيل عن الطبيعة المبتذلة والضحلة للكون الرقمي، فإنه يمثّل حتى الآن ملاذاً رحباً لكل الفئات المهمّشة والمقموعة، ولربما كان شرقنا العربي صاحب الحبل الأعلى والأطول لكل الغسيل المنشور على الشبكة العنكبوتية. فالحملات التضامنية التي تخرج بصورة متقطّعة عبر مواقع التواصل الاجتماعي الكبرى، من المرشّح لها أن تصل لحظة الانفجار الرقمي. فقد لا يمر يوم في السعودية إلا وتنطلق حملة تضامنية مع سجين رأي هنا، أو مع إمرأة تطالب بحق الجلوس خلف مقود السيارة أو السياسة، أو الدفاع عن جماعة ما سامها الحيف السياسي أو الديني، أو مع فقراء تشرّدوا في بلاد النفط، أو مع عاطلين عن عمل في بلد الـ 8 ملايين عامل أجنبي.. فقد تكاثرت الهموم وإن أقصى إيمان وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون يقتصر على الدفاع عن «حرية الإنترنت» في الدفاع عن حقوق الآدميين في الأرض.

لا ريب في أن علاقة الإنسان بالدولة السعودية قد تغيّرت بصورة دراماتيكية مع انفجار الثورة الرقمية، وحتى العلاقة بين الفرد والمجتمع لم تعد هي ذاتها، فثمة تمزّقات متسلسلة وخطيرة طالت أنسجة الشبكات الاجتماعية التقليدية لجهة تخليق فردانية الإنسان الجديد في ظل الثورة الرقمية. في السعودية، ليست المزاعم الأيديولوجية ولا الروابط التقليدية هي ما يكفل ولاء وانتماء المواطن للدولة، فقد تقلّصت مصادر مشروعية الدول في ظل الانقلاب الرقمي، ولم يعد سوى القوة العارية ملاذاَ أخيراً لمشروعية تتآكل بمرور الزمن المتبقي لكل أشكال الاستلاب، الثقافي والنفسي والاجتماعي. ما تصنعه القبّة الإعلامية السعودية من نظام حماية للوعي العام، أو حتى الوعي المتناوب بين الخارج والداخل، لا يعدو كونه تأجيلاً قهرياَ لانكشاف مشهد التحوّلات الكبرى التي مرّ بها المجتمع طيلة عقد من الزمن. فالمجتمع الرقمي في السعودية يزاول انتقالاً ثورياً وقياسياً، لإحداث سلسلة تغييرات جوهرية في بناه الثقافية والقيمية والاجتماعية وصولاً الى تغيير البنى الفوقية، بما فيها السلطة السياسية. المجتمع الرقمي في السعودية يقدّم مثالاً حيّاً على أن الأصفاد القديمة تهترئ على نحو عاجل، وأن رحلة اكتشاف الذات الفردية والجماعية قد بدأت مع تحلل رابطة الإيمان بالأطر القائمة: الدولة، المؤسسة الدينية، القيم التقليدية، الثقافة البدائية، أنماط التفكير الكلاسيكي. وتبدو محاولات تعويم ظاهرة الاعتراض الرقمي المستقل من قبل منتديات حوارية شبه رسمية أو على علاقة تجميلية بالسلطة الحاكمة بائسة، فالتشويه، كما التعطيل، يصدر عن إحساس بالخوف من الخسارة، وفي كل الأحوال ليس ثمة ما يحول دون بروزه الحتمي. فقد جرت محاولات لتشويه صورة ناشطين حقوقيين وإصلاحيين في السعودية حظوا بحملات تضامنية على مواقع التفاعل الاجتماعي الإلكتروني، ولكن حين الحصاد، تدخل المنتديات تلك إسمياً ولكن بمنجل مكسور، كما يقول المثل العراقي. حتى الآن، لا أدلّة دامغة على قرب وشيك لانتقال الاعتراض الرقمي الى الشارع، أي من الافتراضي الى الواقعي، ولكن ثمة مؤشرات جديرة بالتأمل على أن المخزون الاعتراضي لدى سكّان المملكة السعودية ثريٌ الى الحد الذي يفيض على الكون الإلكتروني بحملات تضامنية متواصلة، وفي المعنى المباشر لذلك، أن طاقة استيعاب الدولة لحق الاحتجاج الشعبي على سياسات النظام باتت قاصرة، وهذا يعني في التحليل السياسي البسيط: أن الزمن وحده كفيل بإخراج التظاهرات الشعبية من الشاشة إلى الشارع.